في غرفة صغيرة ممتلئة بالحزن والدفء معًا، كانت الجدران كما هي، والفرشة كما تركتها، لكن كان ينقص شيء… كأن قطعة من الحياة قد سُلبت. كان الصمت يملأ الأرجاء حتى أنك تستطيع سماع صوت عقارب الساعة وهي تمضي. كان كل شيء كما هو إلا “نور”، كانت تجلس أرضًا في زاوية الغرفة تحدق في نقطة بعيدة بلا تركيز، ضامّةً ركبتيها إلى صدرها، لا تتحدث مع أحد. تشعر وكأن الدنيا أظلمت وأصبحت خاوية… كانت وحيدة، تشعر بالغربة وسط أصدقائها، بل في عائلتها أيضًا، إلا شخصًا واحدًا فقط: “جدتها”، كانت هي الوحيدة القادرة على فهمها حتى دون أن تتحدث. كانت تشعر معها بالراحة، وكأنك في منطقة آمنة لن يُحكم عليك بما تقول، مسموح لك بالحديث بكل ما يدور في عقلك.شردت نور في ذكرياتها مع جدتها، تذكرت صباحات كثيرة كانت تبدأ بابتسامة الجدة وصوتها الدافئ. كانت كل صباح بيديها الدافئتين تقوم بتمشيط شعر نور الأصفر الطويل، يقضيان أوقاتهما معًا. كانت الجدة تخبر نور: “عارفة يا نور، أنتِ عاملة زي العصفورة في جمالها ورقتها وفي حُريتها! خليكي كده دايمًا.”مرت تلك الذكرى في عقلها كأنها أمس… مرت سنوات لتصبح تلك الذكرى تبكيها أكثر مما تُضحكها.ابتسمت نور وقتها ثم فرت دمعة هاربة على خدها. تذكرت كيف أصبحت هي الآن؛ فلم تعد تلك الفتاة التي كانت تصفها جدتها. أصبحت فتاة أخرى لا تعرفها. لم تعد “نور”، لم تعد تشعر بالحرية، ولا بطفولتها، ولا حتى ببراءتها، ولم تعد تترك شعرها منسدلًا كأن لمعانه رحل مع جدتها. كأن الوقت توقف منذ رحيل الجدة، فلم تعد تذكر في أي يوم هي، أهو الأحد أم الأربعاء؟ كأن الأيام كلها أصبحت مثل بعضها، وأوقات أخرى تشعر وكأن الزمن توقف عند جدتها.هي لم تخسر فقط شخصًا عزيزًا عليها، بل فقدت ونيسًا وصديقة قبل أن تكون جدة.في صباح رمادي، جلست نور إلى مكتبها الصغير وبدأت بالكتابة وتفريغ كل ما بداخلها على الورق، كأنها ترسل رسائل لجدتها في مكان ما. كتبت كثيرًا حتى كُسر سن القلم، نظرت إليه بيأس وقالت:”حتى القلم اتكسر… زَيّي ماقدرش يستحمل ويشيل اللي بكتبه.”لم يبقَ أمامها الآن سوى بضع ورقات تقول لها ما تشعر به، فقد كانت جدتها الكتف الذي تلجأ إليه وقت ضعفها.وبينما هي غارقة في أفكارها، قطعها صوت طرقات خفيفة على زجاج النافذة. التفتت بسرعة، خفق قلبها للحظات، ثم ذهبت وأزاحت الستار. تسلل ضوء خفيف على وجهها أزعجها، وما لفت انتباهها لم يكن الضوء، بل كانت عصفورة صغيرة لون ريشها أصفر تنقر بمنقارها الرقيق على الزجاج، كأنها تطلب الدخول.ظلت نور جالسة تُحلّق بها دون أن تتحرك. كانت تلك العصفورة غريبة، كان جناحها مائلًا قليلًا كأنه مكسور أو به جرح من الماضي لم يشفَ بعد.فتحت نور النافذة بهدوء، لكنها لم تقترب. ظلت هي والعصفورة تتبادلان النظرات، كأن بينهما شيئًا مشتركًا: تائهتان، حزينتان، لكنهما ما زالتا على قيد الحياة، رغم أن الحياة أصبحت صعبة على كلتيهما.ابتسمت نور ابتسامة خافتة رغم التعب، ومدت يديها للعصفورة وقالت بلطف:”أنتِ شكلك زعلانة… تعالي.”كأن العصفورة استشعرت نبرة الأمان في صوتها، فقفزت بخفة على كف نور. أغمضت عينيها وخفضت رأسها بهدوء.لاحظت نور أنها تحرك جناحًا واحدًا ولا يمكنها تحريك الآخر، فذهبت لإحضار بعض القطن والماء، وجلست بجوار العصفورة على الأرض وظلت تعالج جناحها برفق كي لا تؤلمها.قالت لها نور:”أنتِ عارفة إن تيته كانت بتقولي إني عاملة زي العصافير؟ أنا وإنتِ واحد، شبه بعض. حاسة إني مبقتش نور، حاسة إني انطفيت… تأملها بإندهاش: إنتِ كمان مكسورة؟”مرت الأيام والعصفورة ما زالت في الغرفة مع نور. في الصباح تطعمها وتنظف لها الجرح وتتحدث إليها كأنها صديقتها الوحيدة، يبدو أن كلًّا منهما وجد الآخر، وفي الليل تكتب لها في دفترها الصغير.اليوم الأول:”عزيزتي عصفورة،أنا مش عارفة إنتِ جيتي منين ولا إيه اللي حصلك، بس شكرًا إنك جيتي. أنا فاهماكِ وحاسة بيكِ، إحنا الاتنين محبوسين، مش في نفس القفص… بس نفس الإحساس.”اليوم الرابع:”العصفورة رفرفت جناحها وتحاول الطيران، لكن كل المحاولات تأتي بالفشل وتسقط.استني، لسه بدري شوية… إحنا الاتنين بنتعلم نمشي تاني.”اليوم السابع:”العصفورة تقف على حافة النافذة وتحدق في الخارج…يمكن إنتِ مبقتيش خايفة ومستعدة تطيري، بس أنا لسه خايفة.”كانت تلك الأيام تمر بمثابة علاج بطيء لكلتيهما. كانت تلك العصفورة قد أرجعت ولو جزءًا قليلًا من الحياة إلى نور، فقد كانت كلٌّ منهما نورًا في حياة الأخرى، بصيصًا من الأمل يمكن التمسك به.في صباح يوم مختلف، لاحظت نور أن العصفورة تتحرك بخفة أكبر، جناحها يهتز بثقة وقوة لم ترَها من قبل، ووجدت أن العصفورة تحلق في الغرفة لأول مرة. لم تكن تطير في خط مستقيم، لكنها كانت تحاول بإصرار.اقتربت نور من النافذة وفتحتها على مصراعيها.قالت نور للعصفورة: “يلا… الوقت جه.”طارت العصفورة إلى حدود السماء. وقفت نور تراقبها إلى أن اختفت عن الأنظار.ظلت نور واقفة تفكر، ثم نزعت وشاح رأسها ببطء، وانسدل شعرها على كتفيها. داعب الهواء خصلات شعرها، مررت كلتا يديها خلال شعرها كأنها تُحييه من جديد.كانت عينا نور تلمعان بشيء جديد، لم يكن تلك المرة حزنًا، بل كان بداية أمل. أغمضت نور عينيها وضحكت من قلبها، كانت الضحكة تلك المرة نابعة من قلبها.الشمس تغمر وجهها كأنها تتذوقه للمرة الأولى، شعرها يتمايل مع الهواء، ولأول مرة تشعر أنها حرة، أنها استعادت ولو جزءًا صغيرًا من “نور” القديمة، أنها فردت جناحيها هي الأخرى.رفعت رأسها نحو السماء وهمست: “جه وقتي أنا كمان… أنا قادرة أطير.”أمسكت ورقتها وكتبت:”فحتى الجِناح المكسور، إن عاود المحاولة، يطير.”





