اسرعت الخطى وانا احمل كيس الفول والمخلل وقرطاس الفلافل و ارغفة العيش البلدي الساخنة عائدا الى الورشة وانا اتمنى ان لا يلاحظ الأسطى أنني تأخرت كثيرا عن المعتاد، اتمنى ان يكون عقابه هذه المرة في نطاق السخرية والسباب وأن لا يتطور عن ذلك.
لأنني أصغر الصبية في الورشة فإنهم وكلوا لي المهام الكبرى كالذهاب للقهوة لطلب الشاي أو إحضار الفطور، وأيضا المهام المملة كحمل كشاف الاضاءة “البلادوسة” للأسطى وهي تتطلب احترافية في توجيه الإضاءة بشكل صحيح على الجزء الذي يعمل عليه في السيارة، وأهم شي في هذه المهمة هو تجنب شرود الذهن وإلا سألقى صفعة من الأسطى على مؤخرة عنقي.
أحاول طوال الوقت تذكر أسماء الأدوات ومعرفة أشكالها، والأهم من ذلك تذكر أماكنها وسرعة إحضارها قبل أن يستشيط الأسطى غضبا.
وضعت أكياس الفطور على سطح المنضدة الرثة بالشحم والزيت بعد أن فرشت عليها ورقة جريدة، و سريعا امتدت أيادي الصبية في الورشة لتفتح الاكياس وبسم الله تبدأ في تناول الفطور، ولحسن حظى هذه المرة لم يعلق الاسطى و بدأ في تناول الفطور وهو شارد الذهن.
التهمت لقيمات سريعه وانا اتجنب النظر إلى عيني الاسطى لأخرج سريعا خارج الورشة لاسمع صوته من خلفي يقول:
– شاي وحجر ارجيلة سريعاً، والويل لك إذا تأخرت هذه المرة.
طرت جريا ً في اتجاه القهوة قبل أن يبدأ الأسطى بالسباب، متفادياً العديد من المارة وراكبي الدراجات، ولمحتها، الدراجة البخارية التي احلم بأمتلاكها، وفجأة، ارتطمت وسقطت على الأرض الخشنة.
شعرت بالألم الشديد مصحوباً بأصوات المارة: ماذا بك ألا ترى!
استعدت توازني بسرعة لأقم واقفا وأجدني قد ارتطمت برجل كبير السن، وقد قام المارة بمساعدته للوقوف وإحضار حقيبته ومحتوياتها التي تبعثرت من حوله.
ذهبت للرجل المسن معتزراً: آسف يا حاج.
لم يعقب الرجل المسن، ولكنه نظر الي نظرة غريبة.
فقلت: هل انت بخير؟
فرد: انا بخير الحمد لله،هل من الممكن أن تساعدني لتوصلني لاخر الشارع، فانا احتاج ان اتكئ عليك، اعتقد ان قدمي التوت.
فقلت: بالتأكيد، هيا بنا.
مشيت مع الرجل المسن حاملا حقيبته وكل تفكيري في ما سأنال من سباب حين العودة للورشة.
قلت للرجل المسن بهدوء: هل من الممكن ان اتركك هنا يا حاج، لقد تأخرت على الورشة كثيراً و الأسطى لايرحم.
ضحك الرجل ورد: الأسطى عرفة غادر الورشة منذ قليل، لقد جاء اتصال له من أحد الأصدقاء تعطلت سيارته على كوبري أكتوبر ولن يعود قبل ساعتين من الآن.
وأكمل الرجل وأنا في ذهول: عليك أن لا تقلق، إن كل شي على ما يرام بالنسبة لك.
قلت وأنا ما زلت مذهولا: كيف عرفت كل تلك المعلومات؟
رد الرجل: هذا ليس مهماً الآن، عليك العودة للورشة، شكرا لمساعدتك.
رددت للرجل حقيبته وتركته ومشيت وملايين الأسئلة في رأسي.
ولكن الفضول غلبني لابد أن أراقب هذا الرجل من بعيد، ان هذا الرجل يحمل سراً كبيراً، كيف يعلم الغيب بهذه التفاصيل، أهو مكشوف عنه الحجاب!
راقبت الرجل وهو يدخل إلى زقاق مسدود ومنه إلى أحد المنازل، انتظرت ثوان ثم تبعته إلى الداخل لأجد الظلام فقط، لا يوجد ابواب ولا سلم ولا أي شئ، فقط ظلام دامس وإطار الباب الذي دخلت منه، عدت لأخرج من المنزل واشاهد المنزل من الخارج، لا يوجد شئ غريب في المنزل أو في الزقاق ككل، الا انه مهجور من الأشخاص والحيوانات،وجهت نظري للشارع بالخارج وهو يعج بالمارة ولكن داخل الزقاق لا يوجد احد على الاطلاق.
عدت للشارع عائداً للورشة، لأجد الأسطى غير موجود، سألت أحد الصبية: أين ذهب الأسطى؟
رد ضاحكاً: لقد نجوت اليوم، لقد جاء اتصال للأسطى وذهب ليقضي عمل ما.
لقد كانت كلمات الرجل المسن حقيقة، كيف عرف تلك المعلومات!
ظللت طوال اليوم أفكر فيما سمعت وفيما رأيت، وبعد يوم شاق كالعادة كان دوما ينتهي بنوم عميق، لم استطع النوم جيدا تلك الليلة فقد بدت ساعات نومي كثانية واحدة وكأنني اغمضت عيني للحظة واستيقظت لأجد الشمس قد أشرقت و ملأت الغرفة بضوئها.
ارتديت ملابس العمل سريعا وكل ما يدور في ذهني هو الذهاب لذلك الزقاق مرة أخرى لمعرفة حقيقة ما يدور هناك.
وصلت للزقاق، كما كان البارحة تماماً، لايوجد شخص واحد ولا حتى عصفور في السماء، باب المنزل مفتوح وبالداخل ظلام دامس، دفعني الفضول للدخول ولكن هذه المرة أكملت السير مطمئنا أن فتحة الباب خلفي وأنني يمكنني العودة في أي وقت.
كانت المسافة التي مشيتها طويلة للغاية فقد أصبح الباب من خلفي كنقطة مضيئة صغيرة، ومن ملاحظتي للباب كل بضع دقائق من السير كنت أعرف اتجاهي، ولكني لا أعرف بالضبط ما الذي أمشي عليه وأن كان يبدو أنه سطح أملس صلب، ولا أرى إلى أين أذهب تحديدا ولكني استمررت على أية حال.
اغمضت عيني للحظة شعرت أنني أحتاج الى استراحة قصيرة قبل الاستمرار، لقد بدا الباب الآن نقطة ضوء صغيرة خافتة، فكرت ان اصرخ، لعل أحدهم يسمعني،
تكلمت اولا بصوت عادي: هل من أحد هنا؟
ثم صرخت بلا تفكير: يا حااااج اين انت؟
مرت ثواني، وسمعت صوت بدا أنه يأتي من كل الاتجاهات في نفس الوقت، ليس هناك مصدر لذلك الصوت.
فزعت لوهلة والصوت يقول: لاتقلق يا بني، الحقيقة نحن لم نتوقع أن تصل لهذه المرحلة.
رددت عليه مقاطعا: آية مرحلة؟! ماهذا المكان بالضبط؟
رد الصوت: 5689 ساعة مرت الآن منذ البداية ولكن قراراتك وتصرفاتك قد فاقت توقعاتنا جميعاً، لأول مرة منذ بدء المحاكاة يقوم ذكاء اصطناعي بالخروج عن النص والشخصية الموضوعة له.
ضربتني الكلمات الأخيرة كالصاعقة، ملايين الأسئلة في رأسي، كيف؟
لم يعطيني الصوت مهلة للرد: نعم، أنت ذكاء اصطناعي تم رسم وكتابة تفصيلية لشخصيتك وتم وضعك في ذلك الحي المصمم خصيصا ليتناسب معك ومع المئات من الشخصيات ذات الذكاء الاصطناعي الأخرى.
و تم إضافة بعض التفاصيل كالبشر، مثل محاكاة الشعور بالجوع و النوم
ولكن بشكل عام، كل شخصية تم كتابتها وتصميمها بدقة لتتفاعل مع بعضها البعض كالعالم الحقيقي بالضبط.
ولكن كأي عالم افتراضي ليست كل الأبواب تفتح فعلا وليست كل المباني مباني حقيقية وكثير من التفاصيل الاخرى مجرد شكل خارجي أو بالأحرى ديكور ولهذا وضعنا حدودا للحي الذي تتحرك فيه الشخصيات، فمثلا إذا حاول أحد الشخصيات الخروج من الحي، فإنه يتذكر فجأة أنه قد نسي شيئا في المنزل أو تتعطل سيارتة.
واستمر الصوت في الكلام وكأنه يقرأ ما أفكر فيه: والحقيقة حاولنا بقدر الامكان اضافة تفاصيل الشخصيات والأماكن لتبدو حقيقية و حتى نراقب أيضا ردود فعل الذكاء الاصطناعي مع بعضهم البعض وأيضا مع البشر الذين يدخلون المحاكاة مثل شخصيات الالعاب الالكترونية
و يحاولوا التفاعل مع سكان المحاكاة ومراقبة ردود فعلهم، مثلما حدث معك ومع الرجل المسن.
ولكن كما تعلم، العالم الافتراضي دائما محدود ولأن ميزانيتنا أيضا محدودة فقد وضعنا الشخصيات في حلقة يومية لا نهائية، فأنت تستيقظ تذهب الى الورشة، تتفاعل مع الشخصيات هنا وهناك تتلقى احيانا بعض الصفعات والسباب من الأسطى ثم تعود للمنزل و تعيد الكره يومياً، نعم تتعلم كل يوم شيئا جديداً وتختلف تصرفاتك احيانا ولكن ما لم نكن نتوقعه هو أن تكسر القواعد التي وضعناها لهذا العالم، لسبب ما لا تنطبق عليك قواعد هذا العالم، ولكن لايهم ذلك الآن فسوف يتم مسح ذاكرتك وإعادة تشغيل شخصيتك مرة أخرى.
———————
كنت حريصًا ألا تخترق بدلتي أو زجاج خوذتي صخرة مندفعةٌ صغيرة بينما أجاهد لأتوازن في الفضاء والمحطة الفضائية تبدو أبعد من اللازم.
تعلم أنت أن الطفو مهم جدًا في الفضاء كما هو في كل سطحٍ يسمح بالسباحة، الماء ، والرمال المتحركة ، والفضاء !
ولكن كيف أعود إلى المحطة وقد انفلت الحبل من وسطي وأقل حركة خاطئة تعني الضياع في الفضاء للأبد !
حاولت أن أكون أكثر تركيزاً، كل مرة أخسر في تلك المرحلة ولا أستطيع تخطيها.
ولكن ما حدث هذا اليوم كان يشغل تفكيري، لقد راجعت جميع بيانات شخصية صبي الورشة ولكن لم استطع فعليا تفسير تصرفاته الاخيرة.
أخ، لقد فات الأوان لقد ابتعد الحبل كثيرا.
لتظهر على الشاشة كلمة “ Game Over” وتحتها جملة هل تريد إعادة المحاولة؟
ضغطت على زر الخروج من اللعبة، وبدلا من إعادة المحاولة، تركت منصة الألعاب وعدت إلى مكتبي.
دخلت إلى المحاكاة لأراقب صبي الورشة مجددا، في الحقيقة نحن لا نعلم تحديدا كيف يفكر الذكاء الاصطناعي فكل شخصية الان تطورت كفاية لتصبح كمجموعة من الخلايا العصبية المعقدة والتي من المستحيل تتبعها كلها، كل ما يشغل تفكيري الآن هو التحدي الذي سأختبر به شخصية الصبي اليوم لمعرفة كيف سيتصرف ومراقبة ردود أفعاله وتسجيلها.
راقبته عبر الشاشة وهو شارد الذهن حاملا الكشاف للأسطى، لا اعرف حقيقة ما يدور في عقله الالكتروني.
-لاتقلق يا بني، ان كل شئ سيكون على ما يرام بالنسبة لك.
…..
تمت
فتحي برغش
٨-١-٢٠٢٥







