
بينما كان يُرمق أمواج النيل العذبة، تتوالى بحراك خفيف، يُسائل نفسَه حتَّى النيل الذي يبدو هاديًا عذبًا له أمواج وإن لم تكن قوية، أو جلية للعين، يقولون إن السباحة فيه أكثر صعوبة وأخطر من العوم في البحر رغم هياج أمواجه، كل ليلة في منتصف يومه، عند تمام الخامسة عصرًا، لدَي شاكر موعدًا مع النيل، والشمس، في مقهَى همسة، الفاخر والمُطل على النيل مباشرةً، لا يتأخر عن موعده، دقيقة ولا يتقدم، ولا يغيب عنه إلا مع أشد الوعكات الصحية فحسب، أُتابعه من بعيد وأتعجب عليه، لا ينطِق بأيةِ كَلِمة، طيلة الجلسة ساعة ونصف بالتمام يوميًا، لم يحدث وأن سمعت أي صوت لرنين هاتفه ولو لمرة.. يبدوا أنَّهُ يأتي هنا ليغلق فم كل شيء وأوَّلهم سارق أعمارنا وأوقاتنا، هاتفنا الخلوي .. إنه أيضًا لا يتحدث ولا يتأمل من حوله. تشعُر وكأنَّه لم يعد يعتريه الفضول لأي شيء، عينان ثاقبتان شاخصتان تجاه النيل متأملا فنجان قهوته شبه السادة ولكنها على الريحة ذات النكهة المخصوصة، والتي يعاني في شرحِها في حال غياب رامز النادل المُحب له والعارف بطلبه كما يبلغه كل مرة، أنتَ تعرف طلبي ردًا على سؤال رامز المتكرر : نفس الطلب يا فندم ولا تحب تغير المرة دي؟
ليجيب شاكر بنفس الإجابة:《 هو نفس الطلب يا رامز.》
والعجيب أن رامز لا يمَل من تكرار السؤال كل مرة على أمل أن يُغير شاكر مذاق ما يرتشف ولو لمرة، أو ربما كانت تلك رغبة ملحة داخل رامز على أمل إيصالها لشاكر وكأنهُ يريد أن يقول له:《 غيِّر فنجانك ولو لمرة فلرُبما كانَ هُنالك ألوانًا أخرى من ملذات الحياة ولكنَّك لم تُجرب أو تطلق لنفسك العنان》..
أشاهد كل ذلك السيناريو كل يوم ولكنني لا أندهش، فحالي ليس بعيدًا عن حاله كثيرًا، فأنا أيضًا آتي هُنا كل يوم في موعد مقارب من موعده إلا أنَّني أنصرِف بعده بنصف ساعة، لأنغمس في دوامة المهام التي تكاد تُهلِكني لولا صلواتي، وهُدنتي التي آخذها في ذلك المكان يوميًا. مُحاوِلةً أنا الأخرى شأني شأن شاكر ألا أتغيب عنه..
غيرَ أني أختلف عن شاكر قليلا في أنني أحبُّ أن أتأمل مَن حولي إلى جوار تأمُّل النيل، والشمس والهواء وكل شيء كل شيء من حولي دون التطفل في أحوال الآخرين. أتأمّل في صمت فحسب، لأرى كل ليلة أن تلك الدنيا لم تعطي الراحة لأحد، وأنَّ الراحة لمن عرف أنها ملعونة، هي كالنار مهما اشتعلت تحترق ولا تزداد إلا لهيبًا وفي النهاية كل شيء يصبح رماد إن انطفأت، أشعر أننا جميعا كنافخ الكير، أو كشعلة مَوقِد حيثُ كل همها ودأبها ألا تنطفيء الشُعلة.. حتى لا تتوقف الحياة..
رفعتُ نظري تلك المرة على صوت يخرج من جانبي، مندهشة، أخيرًا قد ظهر لشاكر صوت وقصص وحكاية ولو حكاية قصيرة مع أحد أصدقائه، وبينما أنا اتابع بكل شغف ملقية كل أعبائي على جنَب، فيبدوا أنني نجحت في نسيانها للحظة، فإذا بهاتفي يرن، قاطعًا عليّ أهم لحظات التطَلُّع، لُأفاجَأ بخبر مرعب، من مدير الدار التي أرعاها وأعمل بها مُشرفة، عن وقوع《 قمر》 أجمل بنت بالدار وصاحبة أكثر قصة مأساوية والتي تسببت لإتيانها للدار، وأنها في حالة حَرِجة وتحتاج إلى التبرع بدم وفصيلة دمها نادرة، وهنا انتفضت للحظة من مقعدي وفزِعت:《 ماذا تقول يا أ.محمود، قمر؟ كيف حدث ذلك؟》
بعد سماع التفاصيل باختصار شديد فلا وقت عند كلانا لنضيعه.
لا يوجد مشكلة أنا فصيلتي o تعطي الجميع فما المانع؟
للأسف ️فصيلة دم قمر ab سالب يا أستاذة هي من الفصائل النادرة..
إيه بي ab سالب ودي محتاجة فصيلة إيه طيب وندور يا أ.محمود؟
طاب تمام هقفل دلوقتي وافكر واسأل واجي لحضرتك أعدي على المستشفى.
أغلقت وأنا أدور في صراع ما بين رغبتي في البكاء حزنًا على قمر التي ملكت قلبي منذ أول يوم استقبلتها فيه بالدار ووجهها الباسم المنير فعلا كالقمر، وبين محاولة السيطرة على نفسي للتحرك والسعي لإنقاذ حياتها، وتُصارعني أفكاري الأخرى ومشاكلي بالبيت تلك الأخرى، وهمومي التي لا أجد لها حلا حتى اللحظة، وكأنه كان ينقصني أن أسقط في هذه الحفرة هي الأخرى، وأنا أُكابِد في محاولات الصعود والنجاة من حُفر أعمق وأخطر، أغلق نقطة لأنتقل إلى ما بعدها وهكذا دواليك..
وبينما أنا شاردة تمامًا حتى أنني لم أعد أشعر بمن حولي، داهمَني صوت يكاد يقتل أذناي، يا آنسة، أستاذة، بكلم حضرتك..
فزع قلبي وتسارعت نبضاته حين نظرت لأجده هو شاكر بنفسه جالسًا أمامي على نفس الترابيزة، محدقًا بنظره إليّ، ينتظر أن أجيبه..
إبتلعت ريقي بصعوبة، واعتذرت له: عفوًا آسفة يبدو أنني شردت أكثر من اللازم. ثم صمتت.
لا ولا يهمك..
استطردت سائلة تحت أمرك اتفضل ؟
كنت أريد أن أسالك عن قمر، وآسف لمتابعتي الحديث، ولكن العتب على انفعالك وتأثرك الشديد! يبدوا أنك يهمك أمرها!
_كنتُ أريد أن أخرج من تطفله وسؤاله لأنهي الحديث وأركز في إيجاد حل، لا يوجد وقت.. وأنا أُتمتِم بداخلي:
《يبدوا أنك رايق، وأنا مش فاضية لفضولك دلوقتي》
باغتَني بسؤاله أو بالأحرى الحل السحري: أنا بالمناسبة فصيلة دمي ab نيجاتيف!
نعم ماذا تقول؟ عفوا أعد ما قلته مرة تانية من فضلك؟
والله كما أقول لك يا أستاذة…. عفوًا ما اسمك؟
*مفيش وقت اتفضل معايا ياريت لو مفيش مانع تتبرع لنا لإنقاذ البنت!
ووجدتني اتصرَّف على غير عادتي تمامًا، لأقوم وأجدُني أجذبه من يدِه لأخرُج من باب المقهى وهو ينظر إلي كالمشدوه أو المتعجب على أقل تقدير….
لحظة طيب هاخد موبايلي والمفاتيح أنا معايا عربية هوصلك للمستشفى ونكمل.
توقفت وأنا أشعر بالخجل قليلا من تصرفي.
أنا آسفة لكن يبدو أنَّك ظهرت لي كالحل السحري في لحظة مظلمة 《ذنبك بقا تطلع نفس الفصيلة النادرة》
ولا يهمك أنا متفهم جدًا.
تناقلنا الحديث ونحن نسير بخُطَى مُتعجلة للوصول للسيارة.. ولكنكِ لم تبلغيني ما اسمك حتى الآن..
آه آسفة إسمي شاهندة.
إسم جميل ألا تتفقي معي أنَّ كل من يبدأ إسمه بحرف الشين يتصف بعمق المشاعر والإنسانيات بدليل أننا أنا وانتِ يكاد كلانا لا يعرف بعضنا البعض ولكن تجمعنا خطوات الإنسانية لإنقاذ روح طفلة بريئة لم تجني شيء للحياة لترى كل ذلك سوى أنها أتت للحياة ..
رددت بصوت خافت حسنًا آه يبدوا كذلك أعتقد الإنسانية هي أصل الكائن البشري أيًا كان اسمه أو نوعه.. عالمنا هو ما شذ عن القاعدة الطبيعية مؤخرًا..
وركِبنا السيارة، وبدا لنا مشهد الغروب متألقًا في تلك الليلة على غيرِ عادته، ليظهر القمر محاولاً السطوع وراء قرص الشمس المنسحب، مسدلا ستارَه، تاركًا له الساحة كي يسطع من جديد…
وحتى يكتمل القمر..
-تمت –
من ورشة ال20 ل طارق عميرة