من رواية عظمويل للكاتب أحمد سلمي

الكاتب أحمد سلمى

دار الرسم بالكلمات

أخيرًا وبعد رحلة شاقة حطّت السفينة التجارية مراسيها في ميناء العاصمة لسلطنة عظمويل.

“جورشبيل” يرتكن إلى جانب السفينة، لأن البضائع الرديئة لا مكان لها في الغرف الدافئة، والأكبال الحديدية الصدئة تؤلم معصميه وتترك أثرها جليًا ، ورائحة العطن نفاذة من أثماله الرثة، يكتسي عباءة جلدية مهترئة محاكة يدويًا من جلد الماعز، ويبدو هزيلًا منهكًا كأنه أسير حرب.

الليلة شتوية والجو عاصف والقمر متواري خلف الغيوم وفحيح البحر مخيف، كان الأزرق هائجا كأنما ثعبان مارق.
وقريباً عن أي وقت مضى خلال الشهر المنصرم لاح رصيف الميناء واضحاً، راكداً شبه خاوي، فإنه من النادر ما تخاطر السفن للإبحار في مثل هذه الأجواء العاتية.

اعتلى سطح السفينة بضع من حراس الميناء برفقة كبيرهم المتثائب فدبت الحياة جنبات الراسية، التجار يجهزون أوراقهم وكل منهم يرتب بضائعه ويهندمها، توهجت السماء مرتعدة، وشرع الحراس في عملهم.

على عجلة تقدم كهل قصير فاتح البشرة مجعد الوجه جاحظ العينين، يتشح ثوباً حريرياً أخضر أسفل معطف صوفي رمادي وأعطى أوراقه لكبير الحراس وقال:
_أنا “ميمون” تاجر العبيد ومورد الخدم لقصر السلطان “ملكان”.
فقال كبير الحراس :
_مرحبا بك في “العرين الذهبي” يا سيد ميمون، أين بضائعك؟!

أخرج ميمون يسراه من جيب معطفه، وأشار للثلاثة المكبلين المرتكنين جانب السفينة، وعلى ضوء القناديل متراقصة النيران، تفحص الكبير الأوراق والعبيد، ثم أمر أحد رجاله بالإتيان بعربة وإيصال السيد وبضائعه لقصر السلطان.

شد حارس الميناء لجام الفرس الأدهم وإنطلقت العربة تشق الطرقات المرصوفة بحجارة صغيرة سوداء، جورشبيل له أعين ثاقبة حاصدة لا تفوت أي أنملة وعقل مسجل مستقصي لا يغفل أي تفصيلة، الأشجار متناثرة على الجوانب، البيوت فخمة البناء متعددة الطوابق، مطلية بحرفية، وألوانها متنوعة متناسقة معظمها أصفر لامع، وجميعها تحوي حدائق وبعضها يحوي مسابح، وهذا هو حال الجانب الرغد من العاصمة،حيث الضفة الغربية من النهر..

وصلت العربة إلى وسط ” العرين الذهبي” ، وتحديدا “ساحة ياقوت” الواقعة أمام القصر السلطاني مباشرة والمحفوفة بكثير من الطرق والمنشآت الحيوية، وتعتبر المنبع والمصب لجميع الشوارع الرئيسية والأهداف التسلقية، فهي بمثابة القلب النابض للبلاد، وسميت بذلك الإسم تيمنا ب”ياقوت المستقل”، أول سلاطين “آل قروم” ومشعل الثورة ضد الجنادرة، فعلها ياقوت واستقل بعظمويل عن جندرة وأعلن قيام السلطنة القرومية، وكان ذلك قبل سبعمائة عام تقريبًا.

عندما حازت العربة التمثال القابع في منتصف الساحة، انحنى الحارس سائق العربة في إحترام وفعل ميمون المثل وأشار لعبيده فقلدوه وإنحنوا بدون فهم وأخذوا يتفحصون التمثال بأعين خاملة.

منصة رخامية مربعة منحوت فوقها بإتقان تمثال من البرونز، لجواد يبدو أشهب يقف على قدميه الخلفيتين فقط، يمتطيه رجل قصير عريض المنكبين، يسراه مرفوعة وقابضة على رمح أبيض، الرمح في وضع أفقي مائل للأعلى.

وبعد ثلاث ساعات من الصمت نطق سائق العربة متفاخرًا:
_كان “ياقوت المستقل” _رحمه الله_ مفتون بالبرونزي وإتخذ منه دروعًا، وهكذا فعلها ومزق عنق غول جندرة في معركة الغابة!
سعل وأردف:
_لعنة الله على الجنادرة ناقضي العهد وبائعي الدم.

انقشعت الغيمات مثثاقلة وبان في الأعالي خيط قمري ضئيل، وكف الجواد الأسود عن العدو، ثم توقفت العربة أمام أسوار القصر السلطاني، وبعد دقائق من الانتظار فتحت البوابة الحديدية، فناول ميمون أوراقه إلى الحارس السائق الذي ترجل ووقف مع أحدهم يطلعه على الأوراق.

كانت الأسوار سميكة بيضاء، ارتفاعها يقترب من العشرين متر، ونقش عليها بإتقان أشكال متنوعة، هناك أسد ذهبي المحيا وكذلك رمح أبيض برأس ذهبية، وعبارات مثل “فليظل الرمح شامخا”، أعلى السور دقت صواري عملاقة تحمل رايات ذهبية يتخللها نفس الرمح الشامخ وترفرف بشدة.
نظر “ميمون” لعبيده، وارتسمت على وجهه ابتسامة سمجة وقال:
_لا تستغربوا فهؤلاء القوم يقدسون تلك الأشياء !

أنهى الحارس سائق العربة ما يفعله، وعاد وبتملق قال :
_ يمكنك الدخول الأن يا سيد ميمون، أتمنى أن أحملكم للداخل ولكن أظنك تعلم القواعد، لا يعبر أي حارس أو جندي أو شرطي هذه البوابة إلا…
قاطعه ميمون وقال :
_ إلا بمرسوم من الحارس الأعظم شخصيا، وحراس السلطان فقط هم المسموح لهم بالتواجد داخل أسوار القصر، أعلم.

ودعهم الحارس السائق وعاد بالعربة إلى الميناء منفرج الأسارير بعدما وضع “ميمون” ثلاث قطع فضية في يده.

  • Related Posts

    ١٤ سبتمبر : أمسية إطلاق متاهة زوربا و ما تاخدش في بالك أو خد من غايا للنشر

    📚 ندعوكم لحضور أمسية أدبية مميزة!في لقاء خاص يجمع بين الشعر والسرد، يسعدنا في دار غايا للنشر والتوزيع أن نشارككم إطلاق ومناقشة: 🔹 كتاب “متاهة زوربا”🔹 وديوان “ماتاخدش في بالك…

    أكاذيب لوك لاهورا لسكوت لينش من عصير الكتب

    نشرت عصير الكتب على صفحتها : عصير الكتب تقدم لكم 🎉 ترشحت الرواية لجائزة الفانتازيا العالمية وجائزة لوكاس.حياة اليتيم غامضة -وغالبًا قصيرة- في جزيرة كامور المظلمة، حياة شديدة القسوة، قصيرة…