تامر حجازي يكتب عن فردقان .

رواية فردقان

الكاتب / يوسف زيدان

دار الشروق

… أوقفتِني هذِه الرِّوايَة في مُفترق عِدّة طُرُق مُحيّرة مُلتبِسة ‎..‎

… هل هي رِوايَة رائِعة أم مُجرّد سيرة ذاتيّة لِلشّيْخ الرّئيس ؟‏

… هل هي أفكار اِبن سيِنا أم هو اِنعِكاسُها في مِرآة الأُستاذ ‏؟ ‏

… نفس السُّؤال السّابِق ولكِن عن الشّخصيّات التّاريخيةّ والأحداث ‏ في الرِّوايَة هل هي كما حدّثت حقّا أم هي فرِز ‏ واِنتِقاء يوسف زيْدان لمَا ‏ يُنَاسِب مكنون نَفَسِهِ مِن التّفسيرات ‏ المُختلِف عليها ‏‏؟

… وأخيرا السُّؤال الّذي طالما حيّرني مع الأستاذ وغيْره، هل ‏ يجوز أنّ ‏ نُحوِّل الرِّوايَة الى مِقصلة لِذِبْحِ المُخالِفين، وساحة ‏ لِرجمِهم قبل صلبِهم ‏ بِأقلامِنا، وحسب أيديولوجيّتِنا المُسبقة؟ إنْ كان ذلِك كذلِك فهل ‏ يجوز لِلكاتِب أن يحِزن عندما ‏ يقرأُها القارِئ ويَنقُدُها النّاقِد تبِعا ‏ لِأفكارِهُم وأيدولوجيتيهم ‏ الخاصّة ‎؟

… وهل يجوز في الأصل الحُكم على الشّخصيّات التّاريخيّة خارِج ‏ سياق ‏ عَصْرهمْ فنحاسبهم بِمُقتضيات ثقافة ما بعد الحداثة؟ ‏

… أُحاوِل أن أُجيب على تِلك الأسئِلة معكُم في الأسطُر القادِمة ‏ علَّنا نعرف أكثر عن ذلك العالم الروائي المعقد. ‏‏

…. في البِدايَة أُعلِن أنّ ظُهور يوسف زيْدان في السّاحة الأدبية ‏ مع ‏ اِنطِلاق رِوايَتِه عزازيل كان بِمثابة نقلة نوْعيّة في الرِّوايَة ‏ العربيّة ‏ الى آفاق أعمُق وأَرحَب وإلى عوالم خصِبة قلّما ‏ يطرُقُها أحدٌ غيْره. ‏‏

… لكِن ومِن يوْمِها لم يُنتِج الأُستاذ رِوايَة لها مِثل تِلك الكاريزما ‏‏ السّاحِقة، وكُنت أنتظر ذلِك مع الإعلان عن رِوايَتِه “فردقان” ‏‏ فسارعت الى اِقتِنائِها وحُضور حفل اِنطِلاقِها الرّاقي جِدّا الّذي ‏‏ أقامته دار الشُّروق في مكتبة القاهِرة الكُبرى بِحيّ الزّمالِك ‏ الّذي لا ‏ يقِلّ رُقيّا. ‏‏

… ولكِنّني فوجِئت أننا أمام سيرة ذاتيّة لابِن سيِنا خاليَة مِن ‏ مُقوِّمات ‏ الرِّوايَة الّتي أنتظرهُا مِن كاتِب مُخضرم اُقُر له ‏ بالأستاذية،

… تِلك ‏ السّيرة الّتي كاد يغلِب عليها الملل الى حدّ ما، ‏ لوْلا أنّ طعمها موّلانا بِعلاّقات ‏ اِبن سيِنا الخياليّة (سندُسّ، ‏ روان، ماهتاب)، ولوْلا تِلك المباحِث الفلسفيّة ‏ الّتي أحُبّ ‏ الغوْص فيها، ولو أنّها في كثير مِن الأماكِن جاءتني ‏ بلسان ‏ الأُستاذ الكاتِب نفسُه لا لِسان الشّخصيّات. ‏

… أمّا عن بِنيَة الرِّوايَة نفسها فجاءت مُفكّكة ولكِنّه ليْس ذلِك ‏ التّفكيك المُخِلّ، بل جعلها في مرتبة وسط بيْن الأدب التّقليدي ‏ وأدب تيّار الوَعي الذّاتيّ…‏ لكِنّها جاءت تفتقِد لِعُنصُر التّشويق ‏ الرِّوائيّ لاسيّما مع كشف ‏ الأُستاذ لِلكثير مِن الأحداث قبل أوانِها ‏‎. ‎
… والطّابع السّردي ‏ البطيء الّذي يعتمد في تحريكِه على (الفلاش ‏ باك) لِأفكار ‏ اِبن سيِنا داخِل محبسِه المُرفّه في قلعة فردقان، ومِن ‏ خِلال ‏ علاقتُه بِالمُزدوِج آمِر القلعة، وهو شخصيّة خياليّة وظيفتها خلق ‏‏ أحِداث حقيقيّة داخِل سرد السُّيرّة الذّاتيّة -المنقول مُعظّمُها ‏ مِن كِتابات اِبن سيِنا وتلميذه “أبو عبيد الجوزاني” -مِثله مِثل شخصيات الزُّعاق ونِساء اِبن ‏ سينا الخياليات ‏. ‏‎‎‏‏

أمّا عن الشّخصيّات النِّسائيّة الثُّلاث …

… فكانت (روان) هي المِحوَر ‏ النّفسيّ ‏ لابِن سيِنا والّتي أَضْفت عليه طابع إنساني أخرجه مِن ‏ سطحيّة ‏ الشّخصيّة التّاريخيّة وسيرتها المُسترسِلة، ومِن خِلالها ‏ وصف ‏ الأُستاذ حياة اِبن سيِنا الشّخصيّة ومشاعِره ومعيشته ‏ ومجالِس عِلمِه الخاصّة ‏ داخِل دارِه، وضَياعُه بعد فقدِها، ‏‎‎ فخلقت حياة حقيقيّة داخل الرِّوايَة وكانت عمودُها ‏ الفقريّ، ‏‎‎ وكان غيابُها في نظر الأُستاذ تبريرا لما قيل عن اِبن سيِنا ‏ مِن ‏ ولّعه بِالنِّساء وإفراطه في الجِماع بحثا عن السّلوَى بعد ‏‏ اِختِطافُها ‏‎.

‎‎‎… بيْنما جاءت (سندُسّ) العشيقة الأوْلى لِلمُساعَدَة في سرد ‏ حياتُه ‏ الأوْلى وإشراق نجمِه، ونشأة أُسطورتِه، ‎‎ لكِنّ الأُستاذ لم ‏ يُضيع ‏ الفُرصة لِإدخال تِلك التّصرُّفات الجِنسيّة الشّاذّة كالجِنس ‏ الثُّلاثيّ ‏ مِثلا وباقي التّصرُّفات -بِمِثل ما فعلّ موّلانا في عزازيل ‏ مِن قبل-‏ وله مُطلق الحُرّيّة بِالتّأكيد وان كُنت أجِدها مُقحمة ‏‏… رُبّما لِتفسير اِمتِناع اِبن ‏ سيِنا عن النِّساء الى أنّ قابَل رَوان ‏ لِإغراء القارِئ بِالاِستِمرار. ورُبّما لِأسباب تسويقيّة بحَْتة. ‏‏

… أمّا ماهتاب تِلك النّجمة، فجاءت المُرادِف الإسلاميّ ل (هيبا)‏ عزازيل، الّتي ‏ يبدوا أنّها تسيْطُر على عقل المُؤلِّف الى الأن، ‏ وجاءت لِإخراج الجانِب ‏ الفلسفيّ المُناهِض لِلعقائِد السّائِدة في ‏ مُحيطُه الزّمني لا سيما بعد ‏ أنّ جعلها الأُستاذ هي المقصود ‏ والمُخاطِب بِالصُّحبة في مُقدّمة ‏ كِتاب حيّ بن يقظان … «فإنّ ‏ إصرارُكُم معشر صَحبي، على ‏ اِقتِصاص قِصّة الرّجُل ‏‏ المُسمّى ” حيّ ” هزم لجاجى وإصراري ‏ على الاِمتِناع» …

… وجاءَت علاّقة الحُبّ والجِنس بيْنهُما، كسيمفونية ‏ أجاد ‏ الأُستاذ عزفُها بِحرفيّة ‎.‎ تكفيه تِلك الجُملة الّتي حُفِظتِها مِن طول ‏‏ تكرارُها طربا … (فما هام وهوَى. إلّا الّذي اِلتَذَّ حين اِكتوَى)… وغيْرها ‏‎‎ مِن وصف لِتُطوِّر العلاّقة , وشقاوَة المراودة , وحلاوى الصد والرد ، بما يقِف أمامه ‏ جهابِذة القلم عاجِزين … ‎‎ حتّى في وصفِه لِلفِعل ‏ الجِنسيّ الّذي ‏ جاء راقيا لِدرجة القُدسيّة…

‏‏… أمّا عن الوَصف و تركيب العالِم الرِّوائيّ: فمِن درجة الإجادة ظننت ‏ أنّ ‏ الأُستاذ اِستعار الآلة الزمنيّة مِن رِوايَة “ويلز”، وأنطلق بِها الى ‏‏ الماضي في زمن اِبن سيِنا، فعايَن الأماكِن والطُّرُق والبُلدان ‏‏ والملابِس والأطعِمة والرّوائح، ونقلها بِدِقّة مِن عاش فيها !! فوَصفه ‏ لِلقلعة مِثلا في بِدايَة الأحداث يجعلُك واحِد مِن ‏ ساكِنيها فتعيُّش في ‏ أُلفَتها بقيّة الرِّوايَة …‏‏

… أما اللُّغة فحدث ولا حرج … فرصانتُها تُعزِّز نظريّة اِنتِقال ‏ الأُستاذ في الزّمن، فهو ‏ يكتُب بلغة مُعاصِرة لِلأحداث، وبِنفس ‏ الفاظ وتراكيب العصر العبّاسيّ ‏ الثّاني، بِإتقان لا أَعتقد أَنه يتوَفّر ‏ لِغيْره كعالم ٍمُتبحِّرٍ في عِلم ‏ المخطوطات …‏‏

…لكِنّ ذلِك نفسُه صنع نُقطة ضَعف خطيرة .. بِحيْث أنّ كثير مِن ‏ الجمل ‏ والألفاظ والأسماء تحتاج الى مُتخصِّص في التّاريخ لِفّك ‏ شِفرتِها، ‏ أنا نفسي وبِما أدعيَه مِن وفرة قراءاتي التّاريخيّة ‏ اِحتجت الى ‏ الاِستِعانة مِرارا بِالعمّ (جوجل) لِلتّفسير ‏ ولِلمراجِع اللُّغويّة لديَّ، وبِالطّبع أَثَّر ذلِك على سلاسة السّرد. ‏‏

… ونُقطة الضِّعف الثّانيَة في موْضوع اللُّغة – -قبل أنّ تركه -–‏ كانت ‏ في كوْن اللُّغة ثابِتة سواء في سرد الكاتِب بلسان ‏ الرّاوي العليم أو ‏ على لِسان اِبن سيِنا بِضمير المُتكلِّم حين ‏ يستعيد ذِكرياتُه أَحيّانا، ‏ وهو ما صنع بعض اللّبس. ‏‏

… وهذا ينقُلُنا مُباشرة لِلرّاوي وضمائِره. فضمير الرّاوي العليم ‏ كان المُسيْطِر على ‏ الرِّوايَة ولا أعتقد أنّ أيّ ضمير أخِرّ كان ‏ يفي بِالأغراض الوَصفيّة فيها ‏‎…‎ لكِنّ الأُستاذ كسر ذلِك ‏ بِاِنتِقالات سِلسلة لِضمير المُتكلِّم ‏ على لِسان اِبن سيِنا وبعض ‏ الشّخصيّات مِن خِلال تفكيرهُم الدّاخِليّ أو سيّال ووَعي ‏ الشّخصيّة. ‏‏

… بِالنِّسبة لِلعُنوان سواء كان ” فردقان ” كما جاءت على ‏ الغِلاف أو ” فرديجان ” كما ينطِقها الأُستاذ، فجاء موَفّقا بِذِكر ‏ محلّ الأحداث، فالمكان هُنا كان بطلا حقيقيّا، بِما له مِن زخم ‏ وثقُل وتأثير فاعِل طوال رِحلة الرِّوايَة. ‏

… بيْنما جاء العُنوان الفرعيّ ككوميديّا مُضحِكا مخادعا بِالنِّسبة لي، ‏‏ (اِعتِقال الشّيْخ الرّئيس) أيّ مُعتقل هذا الّذي يحظى صاحِبُه ‏ بِأطايب الطّعام والشّراب وأجود الخُمور وأشهى النِّساء بل ‏ ومُمارسة عملِه الّذي يُحِبُّه وكتاباته الّتي يعيش مِن أجلِها؟

‏… الغِلاف لم يُعجِبني فهو رسم قديم لابِن سيِنا , مع بعض ‏ التّهويمات الهندسيّة واِعتقد أن دار في حجم الشُّروق كان ‏ بِإمكانِها اُكثُر مِن ذلِك بِكثير ‏…

… أمّا عن متن الرِّوايَة فيَدور بِالكامِل حوْل ” أبو عليّ بن عبد ‏ الله بن الحَسن بن علِيِّ بن سيِنا ” ذلِك العبقريّ المُتمرِّد ‏ والمُختلف عليه ‎، ‎ والّذي تجلّت عبقريّتُه في ‏ عُلوم الطِّبّ ‏ والمنطِق والإنسانيّات والفيزياء والشِّعر والفلك واللّاهوت ‏ والفلسفة والصّيْدلة وغيْرها ‎…‎ فكان ‏ سابقا لِعصره.

… حتّى ‏ أنّ كِتاب القانون في الطِّبّ ظلّ هو المرجِع ‏ الطِّبّيّ الأوّل في ‏ اوربا لما يزيد عن خمسمِئة عام , وكان الأساس الصّلب ‏ الّذي ‏ بُنيت عليه قواعِد الطِّبّ المُعاصِر ,حتّى أنّ بعض التّشخيصات ‏‏ السّريريّة الّتي اِحتواها لا يُمكِن لِطبيب مُعاصِر أن يُضيف شيئا ‏‏ اليِها، حتّى اِسماه عُلماء الغرب صِدْقا أبو الطِّبّ الحديث …‏‎

… ولكِنّه هو نفسُه ” اِبن سيِنا ” صاحِب الأفكار المُخالِفة ‏ لِلعقائِد ‏ الإسلاميّة الرّاسِخة، والّتي بِسببِها اتَّهَمه كثير مِن الفقهاء ‏ بِالكفر والإلحاد. ‏‏ ولمّا صادف أنّ لِهذِه الأفكار هوَى في نفس الأُستاذ. فوَجدها ‏ فُرصة ‏ سعيدة لِتحميل فلسفتِه الذّاتيّة والمُعلنة في لِقاءاتِه ‏ وتدويناتُه. ‏‎‎ فعمِل ‏ على بروزتِها وتطعيمها بِمكنونِه وإخراجها كأنّها ‏ حقائِق ثابِتُه لا ‏ خِلاف عليها فهل ذلِك مِن اِختِصاص الأعمال ‏ الرِّوائيّة؟ ‏ حقا لا ‏ أدرى.

…‎‏‏ لاسيّما ما تجلى مِن اِنتِقائيّة الأُستاذ لِلآراء الّتي تناسُب هواه في ‏‏ الشّخصيّات التّاريخيّة دون النّظر الى ما يُخالِف ذلِك ، في ‏ تدليس ‏ واضِح على القارِئ.‏

… فمحمود اِبن سبكتكين الغزنوي عِند الأُستاذ ‏ وفي عالم الرِّوايَة ‏ هو ذلِك السّفّاح القاتِل البشِع الّذي يهوَى مواقعة الغِلمان ‏‏ وإذلال العُلماء، في أوْقات فراغِه مِن حرق وتقطيع أطراف ‏ الهنود وسحِق الشّيعة المساكين.
.. ‎. ‎ وهي النّظرة الشّيعيّة التّاريخيّة لِلرّجُل الّذي أزاح ‏ سيْطرة ‏ الممالك الشّيعيّة كالبُوهيِّيَِن وخِلافه ..

… ‎ بِعكس النّظرة السُّنّيّة ‏‏ الّتي تعتبِره بطلا إسلاميّا فاتِحا عاقِل خيِّر ، ومُجدّدا لِلدّين ‏, ومُحِبّا لِلعِلم والعُلماء وموَقّرا لِهُم ، أعادّ لِأهل السُّنّة مكانتهُم ‏… بعد أن كادت تندثِر وبعد عُقود مِن بطش الشّيعة بِهُم ‏‎.

…‎ فعلى أيّ أساس ‏ اِختار الأُستاذ ذلِك المنظور وأهمل الأخر ‏ إلّا لما يوافِق هوَى نفسُه ‏؟‏‏

… اِلم يُكن أجدى أنّ تكون الرِّوايَة أكثر حياديّة وأقل إثارة ‏ لِلنّعرات ‏ الطّائِفيّة في زمن نبحث فيه عن أرضيّة مُشتركة ‏ لِلعيْش في سلام؟ ‏‏

… ومِن له المصلحة في النّفخ في كير فِتنة تاريخيّة عُمرِها مِن عُمر ‏‏ الإسلام نفسُه إلّا قليلا. ولِماذا نحافظ بِشِدّة على تِلك النياران ‏‏ مُتأجِّجة في الصُّدور .. والى متى؟

…‏ والغريب أنه نفس المنظور الشّيعيّ ‏ الّذي يُحاكِم بِه الأُستاذ شخصيات مثل ” صلاّح ‏ الدّين الأيوبي ” وغيْره مِن ‏ أعلام الدّوْلة السُّنّيّة. ‏‏

… أعلم بِالطّبع أنّ هذا وهؤُلاء لم يكونوا ملائِكة كما ‏ تصورُهُم ‏ المراجِع السُّنّيّة، ولكِنّهُم كذلِك ليْسوا أولئِك ‏ الشّياطين في المراجِع ‏ الشّيعيّة.

.. ‎. ‎ فعلى أيّ أساس ننحاز لِمرجِع ‏ دون أخر؟ ‏ اِلم تُكن روْح ‏ العصر حريّة بِالحياديّة والدِّقّة العِلميّة في ‏ السّرد, على الأقل عرض جميع الأقوال بِحيلة فنيّة داخِل ‏ الرِّوايَة؟ ‏

… لاسيّما أنّ عالم ‏ الرِّوايَة المُبهِر أسهَل في الاِلتِصاق بِعُقول فِئات ‏ مِن الشّباب تُعاني ‏ مِن قِلّة الثّقافة عُموما والثّقافة التّاريخيّة ‏ على وجه الخُصوص. ‎

…‎ وسُرعان ما ستكون أحداث الرِّوايَة ‏ المركبة بِعِنايَة ‏ وإغراء ، مُسلِمات لا فكّاك مِنها. ورأيْنا ذلِك بِأعيُنِنا مِرارا.
‏‏… واِعتقد أنّ هذا هو السّبب المُباشِر الّذي دُفع بمولانا لِاِتِّخاذ ‏ الرِّوايَة ‏ سِتارا لِأفكارِه بدلا مِن كِتابتِها في كِتاب عِلمي أو حتّى ‏ سيرة ذاتيّة ‏ عِلميّة لابِن سيِنا.
… فهو يعلم وقتها كمّيّة الاِتِّهامات ‏ والمواجهات بِعدم ‏ العِلميّة والحياديّة ‎. ‎‎‎ لكِنّ الرِّوايَة قمّاشة رحبة فضفاضة يُسهِّل ‏ التّملُّص فيها ‏ بِحُجّة أنّها مُجرّد رِوايَة خياليّة وليْس كِتاب عِلمي.

… ‏‏ وبيْنما كُلّ ما سبق قد نختلِف أو نتّفِق حوْله, لِكنّني لا أستطيع ‏ اِبتِلاع جُزئيّة, تبني أفكار اِبن سيِنا المُثيرة لِلجدل تندرِج تحت ‏ عُنوان الفِكر الباطِنيّ …
… وصِراع الفِكر الباطِنيّ والفِكر ‏ الظّاهِري قديم قدم ظُهور الرِّسالات السّماويّة. فالنّصّ المُقدّس ‏ له تفسير ظاهِر واضِح واحِد، ولكِنّه يحتمِل ملايين التأويلات ‏ الباطِنة تختلِف بِعدد اِختِلافات عُقول مُحلِّليِه.

…وطالما أنّ النّصّ المُقدّس لا يُمَسّ فلنَعْبر إذًا فوْق ألفاظِه ‏ الواضحة ولُغتُه المُحدّدة المقاصِد، بِتهويمات خياليّة باطِنيّة ثُمّ ‏ ندّعي أنّ تِلك التّفسيرات لا يفهمها إلّا الصّفوَة وتخفى على ‏ العوّام،

… فنخلُق طبقيّة عِلميّة وأنبياء جدد ولو لم يدعوا النُّبوّة. ‏
وكان هذا سبب تشرذم اُمه الإسلام، واِنقِسام طوائِف المسيحة ‏ واليَهوديّة.

… ونجِدُه واضِحا اليَوْم في أفكار بعض طوائِف ‏ الشّيعة والمُتصوِّفة وأفكار المُعتزِلة قديما. ‏‎‎ دون الدُّخول في ‏ تفاصيل.

.‏.. فبيْنما يتبيّن لنا كُلّ يوْم مُدى عبثيّة وهدميِه تِلك الأفكار ‏ الباطِنيّة الّتي أدخلتنا في صِراعات لا حصر لها ‎…. ‎ نجِد أنّ ‏ موّلانا لا يكتفي بِذِكرِها مِرارا في لِقاءاتِه وتدويناتُه المُعلنة ‏ والخاصّة ولكِنّه يُنشِئ عمل أدبي خِصّيصا ليُحبِّب ويَقرُب تِلك ‏ الأفكار الى قلوب مُريديِه. ‏
…فقُرِّر الأُستاذ أن يجلُبها جلبا مِن أُفُق التّنظير الدّينيّ والصِّراعات ‏ الخفيّة بيْن العُلماء والّتي اُعفي مِنها شبابنا، ‎‎ ليَجعلها قالِبا رِوائيّا ‏ شيِّقا مُطعّما بِما يجعلُه لذّة لِلشّارِبين.
ولتسقُط أجيالا جديدة في ‏ أتون لُعبة قاتِلة قديمة. ‏‏

… وأخيرا لو اِستطردت في تحليل تِلك الرِّوايَة المحيرة بِمثالِبِها ومناقِبها ‏‏ فلسفاتها لِاِحتجت الى صفحات وتحليلات يضيق الحال عنها ‎.

… ورغم ‏ كُلّ نِقاط الضِّعف والقوّة في الرِّوايَة يُثبِت زيدان أنه ‏ أُستاذ حقيقي.‏‏

… ولكِن.. متى يتعلّم الأُستاذ نزِع هوَى نفسُه عن عالم رِوايَاتِه ‏‏ فيَُضَمِّنَه إنّ شاء كِتابا عِلميّا يستطيع المُتخصِّصون حِسابه ‏ عليه ‎. ‎‏ أو ينتهِج جانِب الحياديّة في الرِّوايَة .

… فنحن بِحاجة الى ‏ رِواياتٍ ‏ تاريخيّة تسبِر أعماق تاريخِنا لا تنخر في جُذورِه ‏ ليَستخرِج الخُبث مِنها. ‏

… نحتاج الى ذلِك ‏ الأدب الّذي يجمعُنا على التّجرِبة الإنسانيّة ‏ العامّة والشّديدة ‏ الخُصوصيّة في آن واحِد، لا يدفعنا دفعا لِلتّناحُر ويُشعِل نيَران ينبغي أنّ ‏ تنطفِئ الأن، بعد ما يقرُب ‏ ألف وخمسمَائة عام مِن إشعالِها ومازالت مُستعِرة بِفِعل تِلك ‏ التّصرُّفات وتِلك السّرديات المُغرِقة في الاِستِقطاب ‏‎…. ‎

الكاتب / تامر حجازى

  • Related Posts

    ١٤ سبتمبر : أمسية إطلاق متاهة زوربا و ما تاخدش في بالك أو خد من غايا للنشر

    📚 ندعوكم لحضور أمسية أدبية مميزة!في لقاء خاص يجمع بين الشعر والسرد، يسعدنا في دار غايا للنشر والتوزيع أن نشارككم إطلاق ومناقشة: 🔹 كتاب “متاهة زوربا”🔹 وديوان “ماتاخدش في بالك…

    أكاذيب لوك لاهورا لسكوت لينش من عصير الكتب

    نشرت عصير الكتب على صفحتها : عصير الكتب تقدم لكم 🎉 ترشحت الرواية لجائزة الفانتازيا العالمية وجائزة لوكاس.حياة اليتيم غامضة -وغالبًا قصيرة- في جزيرة كامور المظلمة، حياة شديدة القسوة، قصيرة…