حازم اسماعيل يكتب : رؤية نقدية لرواية لاتيه للأستاذة مروة الجمل

تبدأ الرواية بعالم حالم نعيش فيه دنيا الحلم الوردي بصحبة إحدى بطلات العمل التي كانت ترى فيما يراه النائم نفسها في الكافيه الشهير(لاتيه) المكان الذي دار حوله وداخل أروقته جانب كبير من جوانب هذا العمل، لدرجة أن الروائية اختارته اسمًا للعمل كله.. عاشت (سماح) في أحداث هذا الحلم باسم (تالا) وأظهرت حبها لهذا الاسم حين نطق عقلها الباطن بتقارب الاسم مع حروف المشروب اللذيذ الذي تحبه، والذي كان اسم الكافية، والذي هو اسم الرواية نفسها.. وخارج عالم الأحلام كانت (تالا) بالفعل فتاة جميلة ترتاد هذا الكافيه الذي يقع في الحي الراقي الذي يرتاده الأغنياء ضيوفًا وروادًا، بينما يرتاده الفقراء عمالاً وخدمًا، وقد التقى (مكرم) أحد أبطال العمل بها، رآها فخطفته وسلبت قلبه فحادثها محادثة قصيرة ثم انصرفت بعد أن قذفت على مسامعه وفي روحه اسمها الجميل (تالا) ليعيش مع صاحبته عبر صفحات الفيسبوك ذلك العالم الأزرق الافتراضي الجميل زمنًا يحدثها وتحدثه ويعيش معها سعادة الحب والأمل في لقاء، ليبرز في النهاية سوء تفاهم عجيب فتكشف لنا الروائية أن صاحبة الاسم على الفيسبوك امرأة أخرى جمعها به الحب قديمًا وقد تحول إلى الاعتياد فهي رئيسته في العمل (إلهام) يحجبها عنه سور عالٍ، لكنه لم يعرف صاحبة الأكاونت الحقيقية وإن خالطه الظن في النهاية أن (تالا) اسم مزيف لزوجته أو عميلة لها تريد أن توقع به فانصرف عنها، حتى اعترفت له (إلهام) ثم اعقبته بانسحاب لا رجوع فيه.. واستخدام هذه الشخصية (تالا) بهذه الصورة المحيرة تحمل براعة من جانب الروائية فهي العامل المشترك لكثير من بطلات الحلم والأمنية، (سماح)، و(إلهام)، بالإضافة إلى صاحبة شخصية الكافيه التي اختارت هذا الاسم لتستر ورائه في أحلام يقظتها، حيث تتقمص هذه الشخصية وتستر وراء اسمها فتبدي التحرر الذي حرمت منه في ظل والد متشدد وأم منصرفة عنها لتنتقم منهما بتفريطها في شرفها مستسلمة للشيطان الذي يغويها وينال منها، لتكشف لنا الكاتبة عن شخصيتها الحقيقة أنها (عائشة) ابنة (إلهام)، و(محفوظ) طالبة الثانوية العامة التي تخطو إلى الجامعة!!
والرواية تقدم عملاً من واقع الحياة تعري المجتمع وتكشف أستار النسيج المتداخل الخيوط والتفاصيل والألوان من طبقات هذا المجتمع لعدة أسر تمثل قوامه، وتضع للقاء هذا الخليط المتنوع من الناس مبررًا منطقيًا، تمامًا مثلما جعل “محمود تيمور” في أول قصة قصيرة عربية “في القطار” طبقات مختلفة من المجتمع المصري تلتقي على سفر في قطار وهذا المنطقي لتلاقي طباع مختلفة وشخصيات متنافرة، ونفس الشيء فعله “برندللو” في قصة “الحرب”، فقد جعلت الكاتبة نقطة التلاقي لخيوط العمل المتشابكة في عدة مسارح للأحداث، منها مجمع التحرير حيث تلتقي (سماح) العاملة بالموقع بالأستاذين (محفوظ)، و(عزوز) في دولاب العمل الحكومي بروتينه الممل، ثم تسير الرواية مع بسط خيوط الأحداث في مسار أسرة (سماح)، وأسرتي (محفوظ)، و(عزوز) وتستعرض مشكلات أسرتي الرجلين فالزوجة في كليهما عاملة تجتهد لتوازن بين بيتها ومتطلبات الزوج والأبناء وبين نجاحها في العمل وحاجتها المادية إليه لتساعد في بيتها مثل كثير من نساء عصرنا الكادحات، الأولى منهما مديرة فرع البنك دائمة الانشغال ذات الشخصية المسيطرة في العمل، والتي انصرف عنها الزوج وعاش معها بغير روح حرمها من حقها عليه كزوجة وأهملها تأديبًا لها على استمرارها في العمل كارهًا لنجاحها وتميزها على الرغم من قبوله للمال التي تنفقه في البيت، والثانية المحامية (نشوى) زوجة (عزوز) الذي كان زير نساء كثير الخيانات مستهتر يملأ الرواية بضحكته المميزة (هه هه ها) في جميع الظروف والأحوال بغير اكتراث أو مبالاة، وقد اختارت المنطقة الشعبية محلاً لمكتب المحاماة الذي اشتغلت من خلاله في خدمة المجتمع بقسوته وعدم تقديره ودونيته، حيث لاقت منه الكثير من إيذاء بدني ونفسي، وكلا الأسرتين تمتلك اثنين من الأبناء واحد من كل صنف: ولد وبنت، يعيشان منفصلان بأحلامهما عن واقع الحياة المرير، ومعاناتهما من حياة زوجية للأبوين غير مستقرة لعدم التوافق وإلقاء كل منهما بمسئوليات البيت والأبناء عليه، وجيل الأبناء من الأسرتين يمثلان التمرد على الواقع والتطلع إلى آفاق أبعد من مجتمعهم، وهذه الصورة أوضح في جانب أسرة (محفوظ) و(إلهام)، فالشاب يرغب بالسفر إلى الخارج ليعيش حياة مختلفة مع فتاة أجنبية يراها نموذجًا للتحرر والاعتماد على النفس، والثانية تحارب التزمت والقهر بالتمرد عليه فتلعب بالنار في علاقتها بشاب تقابله لأول مرة فتفقد شرفها انتقامًا من الوالدين في شخصها هي وعلى حساب سمعتها ومستقبلها بعد أن فشلت بالالتحاق بالكلية التي تحبها ورضخت لرغبة والديها، وعلى الجانب الآخر فلأسرة الثانية كان ابناها أكثر تماسكا وصلاحا ووعيًا على الرغم من فساد الأب لكن الأم (نشوى) كانت عوضًا لهما عن الوالد الغائب الحاضر، وهي النموذج المثالي من وجهة نظري في العمل، وكانت الفتاة (منة الله) نعم الفتاة المهذبة التي تمثل الجيل الواعي الذي يقف لأبويه ناصحًا مؤنبًا تتحدث بلسان جيل أضاعه انصراف الآباء عن تربيتهما والاهتمام بهما، وكان الفتى شاب طيب يفقد حياته شهامةً وشجاعة ًعلى أيدي جيل فاسد هم أشرار البيئة التي تكافح أمه المحامية للدفاع عنهم ومحاولة حمايتهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه منهم.. وتتداخل علاقات أخرى من جانب أسرة (سماح) وابنتها (عنان) التي تتطلع إلى وضعٍ أفضل مستغلة جمالها الباهر وفتنتها الطاغية، وأسرة (أم مصطفى) المرأة المكافحة التي خُدعت من رجلٍ باسم الزواج لتكتشف أنها تزوجت بلطجي تاجر مخدرات يُزجُّ به في السجن بعد أن يترك لها ابنًا نسخة منه، و(مكرم) مرءوس (إلهام) في العمل رب أسرة قوامها زوجة يؤرقها الحرمان من الأولاد، وأسرة الحاج (سلامة) وزوجته الحاجة (سليمة) اللذين يربطهما بـ(سماح) وابنتها العمل في البيت والمحل، كما ترتبط هذه الأسرة بـ(مكرم) الأخ غير الشقيق للحاج (سلامة) يبره وينفق عليه ويرعاه، وتلج بنا الروائية داخل كيان هذه الأسرة ميسورة الحال التي يتولى أمرها رجل البر والتقوى والصلاح، والأم الرءوم، وثلاثة أبناء: (كريم) عنصر من عناصر الشر في العمل يمثل الانحراف واستغلال المال في الفساد والإفساد والإضرار بنفسه وبغيره، وفتاتان الأولى تتزوج لتخرج من نطاق سيطرة الأسرة، والثانية تدفعها رغبتها في إثبات أنوثتها وأنها مرغوبة مطلوبة مقارنة بأختها الأجمل والأرشق إلى توريط نفسها بعلاقات غير سوية عبر مواقع النت تُستغل لابتزازها فتنتحر خوفًا من الفضيحة فتخسر حياتها وتغضب ربنا خوفًا من إغضاب المخلوق.. وتسير الأحداث في مسارات مختلفة ودوافع عديدة يكشف فيها الفتى الضائع (مصطفى) عن معدنه الأصيل حين تصدى لمحاولات الشاب الفاسد المدلل لافتراس (عنان) التي طاردته طويلاً في محاولة للفت انتباه والإيقاع به في الحب والزواج، لكنه أراد استغلالها في اتجاه آخر، فتتعرف على خبث غرضه في اللحظة الأخيرة وتنجو من غدره بمساعدة (مصطفى)، لكن مع الأسف تسقط (عائشة) في براثنه بغير مقاومة منها، وتنتهي الرواية بمفاجأة من العيار الثقيل لتتضح حقيقة الحاج (سلامة) الذي كان متورطًا في تجارة المخدرات، وكان يدير المكان الذي كان مطمعًا ومطمحًا لأبطال القصة البسطاء لتكشف لنا الروائية زيف هذه الأحلام التي تتكشف الأحداث عن كونها نارًا وليست جنة، ذلك المكان (لاتيه)!
وتنتهي الرواية بمحاكمة وكأنما أرادت الكاتبة أن تضع المجتمع كله في قفص الاتهام، ليس فقط الجناة الذين ورطهم في هذه الجرائم الأخلاقية والجنائية إهمال الأهل والضغوط الشديدة والكبت وفساد المجتمع وظلم أفراده، فتوجه المحامية (نشوى) الأم الثكلى بابنها (محمود) اللوم لنفسها ولزوجها ولأهالي الجناة الذين في حقيقتهم ضحايا ولمجتمعهم الظالم، فالجميع يستحقون السجن من وجهة نظرها وهي أولهم، وتجلس في القاعة (عنان) وأمها و(مصطفى) الذين يمثلون القطاع الذي نجا من مصير المتهمين لتعطي الكاتبة صورة مشرقة للأمل في الإصلاح بطيب معدنهم وأصلهم الطيب الذي تجسد في المرأتين أم مصطفى وسماح اللتين واجهتا المجتمع بكفاحهما في غياب الزوج بالسجن لأحدهما والموت للآخر، بينما يجني المال الحرام على أسرة (سلامة) حيث يضيع مستقبل الابن المدلل الفاسد، وتنتحر أخته ويضيع مستقبل ابنة موظفة البنك المرتشية، وتفقد (عائشة) شرفها وتتهم بجريمة جنسية هي ومن يدير المكان لتلك الأعمال المنافية للآداب، ويُقتل (محمود) ويموت أبوه كمدًا عليه..
والعمل يتميز بتعدد مسارح الأحداث حيث تصور الروائية العمل في شكل كادرات لتسير الأحداث بالتوازي بينها، ويحتاج القارئ إلى التركيز الشديد حتى يضمن اتصال الأحداث في ذهنه، ولا أجد صعوبة في إدراك ذلك لأن الروائية تمتلك أسلوب ساحر جذاب يشدك ويستحوذ على حواسك لتلتهم العمل بعينيك وعقلك وقلبك، بما يمتزج لديها من خفة الدم والقدرة على الوصول إلى أعماق الشخصيات بدقة وصف على الجانب النفسي والاجتماعي والجسدي، فتقرب للقارئ نماذج ملموسة من واقع حياته، وبراعة الكاتبة في تجسيد كثير من العلاقات الموجودة في المجتمع ينبئ عن رؤية جيدة وقراءة واعية سليمة من جانبها للمجتمع وقدرة على التغلغل في تفاصيله..
وأحداث الرواية قد تبدو للوهلة الأولى محملة ببعض الصدف غير المبررة في بعض الأحداث واللقاءات، مثلما حدث حين أنقذ (مصطفى) الفتاة (عنان) من براثن (مصطفى) ليركب تاكسي يتصادف أن الذي يقوده (عزوز) وهما بالطبع لا يعرفانه، وأرى في مثل تلك الحادثة المبرر للروائية وكأنها تريد أن توصل إلينا فكرة أن الدنيا ضيقة، أو أنها تشير لسائق التاكسي هنا كرمز وليس كشخص بعينه، فـ(عزوز) مجرد سائق لا يعرفهما فهما كغيرهما مجرد ركاب، فهو نموذج للسائق، وهما نموذج للركاب، وكل منهم محمل بمشكلاته وهمومه وكلا الطرفين في غنى عن مشكلات الآخر، هو لم يشارك فيما يفعلان، وهما لم يشاركا فيما يفعل، وعلى هذا فلا أرى في الصدفة هنا أية غضاضة، وكذلك الطموح إلى اسم (تالا) التي تعيش صاحبته حياة أرستقراطية مرفهة أو حالمة في حلم (سماح) المرأة البسيطة، و(إلهام) المرأة المحملة بمشاعر الحب والرغبة التي تختفي خلف قناع جامد صلب تتعامل به في العمل، والفتاة المكبوتة (عائشة)، يضاف إليهم امرأة عاشت في خيال (مكرم) ظن أنها مأجورة من قبل الزوجة للإيقاع به..
برعت الروائية في استخدام التشبيهات والأوصاف بصورة رائعة مزجت فيها الأحداث تارة بروح المرح والفكاهة الجميلة التي نلمسها في الأستاذة مروة بملامحها الطفولية البريئة وضحكتها الجميلة ورقتها المميزة، وتارة تصدمنا بواقع حياة جامدة الملامح تعكس قراءتها الخبيرة وعمق فهمها لواقع الحياة والمجتمع الذي قامت بحلحلته بشدة ليكشف عن خفاياه ومشكلاته بدقة طبيب جراح يفتح الجرح بمبضع حادٍ لينظفه ويطهره، فمروة الجمل كاتبة متمكنة من أدواتها تجيد قراءة النفس البشرية وما تحويه من تنوع في الرغبات والطموحات والمخاوف، تتلمس بشجاعة الجوانب المظلمة منها والجوانب المضيئة فالنفس البشرية خليط من الخير والشر، فليس بيننا ملائكة محضة وليس بيننا شياطين محضة، كما تتحكم الظروف والوراثة في صنع شخصية الفرد فالإنسان نتاج المجتمع والأسرة وقيمه المكتسبة وما تربى عليه، والهداية موجودة لمن أراد أن يستقيم أو أراد أن يضل..
العمل مشوق وجذاب، والحوار رائع يفيض بلغة الأبطال وثقافتهم التي تتضح من خلال الأوصاف النفسية والجسدية والاجتماعية، والعمل وإن طغى عليه السارد العليم التي رؤية الكاتب مما أعطى العمل إقناع بمعرفة الأحداث بغير غموض ولا تشويش على عقل القارئ..
وأستطيع أن أقول بثقة أنه عمل جميل أعجبني كثيرًا واستمتعت بقراءته مرات قبل أن أشرع في كتابة رؤيتي هذه، وأوجه الشكر إلى صديقتي الغالية على عمل بديع له قيمته، احترمت فيه عقل القارئ وقدمت له نماذج واقعية من الحياة، أثق تمامًا أن هذا العمل استنزف كثيرًا من جهدها وطاقتها وضغط عليها بصدمة أحداثه وهي الشاعرة الرقيقة مرهفة الحس، وإن كانت قد أجهدتني بكثرة العلاقات في العمل وتشابكها وسرعة إيقاعها بمثل ما عليه واقع الحياة التي نحياها..
سلمت أناملك الرقيقة وعقلك الواعي وموهبتك الأصيلة يا صديقتي مروة مَنْ أعتز جدًا بصداقتك وبقلمك وبشخصك الجميل، وأضعك على ذروة عالية من التميز على المستوى الأدبي والإنساني كما أنت دائمًا متميزة بالنسبة لي على المستوى الشخصي كصديقة ورفيقة قلم مشجعة، لك خالص مودتي وتقديري واحترامي..

Related Posts

١٤ سبتمبر : أمسية إطلاق متاهة زوربا و ما تاخدش في بالك أو خد من غايا للنشر

📚 ندعوكم لحضور أمسية أدبية مميزة!في لقاء خاص يجمع بين الشعر والسرد، يسعدنا في دار غايا للنشر والتوزيع أن نشارككم إطلاق ومناقشة: 🔹 كتاب “متاهة زوربا”🔹 وديوان “ماتاخدش في بالك…

أكاذيب لوك لاهورا لسكوت لينش من عصير الكتب

نشرت عصير الكتب على صفحتها : عصير الكتب تقدم لكم 🎉 ترشحت الرواية لجائزة الفانتازيا العالمية وجائزة لوكاس.حياة اليتيم غامضة -وغالبًا قصيرة- في جزيرة كامور المظلمة، حياة شديدة القسوة، قصيرة…