هي والبحر- قصة قصيرة- طارق عميرة

كنتُ ساهمًا أنظرُ إلى الأمواج المرتفعَة في وسطَ البحر والتي تهدأ رويدًا رويدًُا حتّى تتبدّد على رمال الشاطيء , الشمس بدأت رحلتهَا نحوُ الغروب والماء ملونٌ بلونِ السمَاء الآخذ في الشحوب , تأملتُ موجةً بدَت لي أعلى من سابقيهَا حتّى بدأت في التناقص لتهدأ تمامًا مع الوصُول إلى الشاطيء , وقاطعْ تأملّي صوتهَا بجواري وهي تسأل :

  • ماذا يعني لكَ البحْر ؟
    واصلتُ تأملّي وأنا أمعن التفكير محاولاً الإهتداء إلى الإجابة داخلِي , إلتفتُ إليهَا متدثرًا بضياءها الذي حجَب عنّي بقية الشاطيء :
  • مثلكُ تمامًا ..
    و شردَ بصري جهة البحر وأنا أتَابِعْ :
  • أتمنّى أن أرتمي في أحضانِه , ولكنّني عاجز تمامًا ..هو لنْ يفهَم ذلِك بالتأكيد , لهذَا سأكون غريقَ الليلَة .
    قالَتْ ولم يبدُ عليهَا الفهْم :
  • أيعنِي لكَ العجْز ؟
    زفرَت وأنَا أقول :
  • ربّمَا , يعني الحرية لدى البعض وهو المحسور بين اليابس , أحبّه هكذَا على أيّة حال .
    عدتُ أتأمل الأمواج بتركيزٍ أكبَر محاولاً فهم ما يعنيهِ لي هذَا المشهدُ حقًا , لماذا لا يكون التفسير البسيط أنّني أحبهُ هكذَا , أحبّه غير ملوثٍ ولا أثرَ فيهِ لبشري , لماذا أحبّها وماذا تعنِي لي , لأنّهَا هيَ , وتعني لي أشياء كثيرَة ولكنهَا ليست رمزًا لأي شيء , أحبّها لأنّها مضيئة الوجه جميلة الملامح , لأنّها تعرفُ أسراري وتفهمنِي , لأنني أعرفهَا وأعرف أنّها نقيّة كزيت الزيتون , لأنني رأيتُ فيهَا تلك الراحة التي بحثت عنها لقرون .
    لماذا أحب والداي ؟ لأنني أحبهمَا وليسَ لأنهمَا والداي , هنَاك الكثيرين يكرهون آباءهم بل يقتلونهم , حتّى حينَ أحبّ مكانًا ما يسألني أصدقائي عن سر حبّي لَه , ليسَ هذا لأن هناك حسناء تعملُ بهِ أو أنّه أحد الآثار الهامّة , الإجابة التقليدية هيَ لأنني أحب هذا المكان ..
    لماذا تحب ذلك ؟ لأنني أحبّه , الحب ليسَ شيئًا إراديًا أو بابًا تملك مفتاحه , هو عواطف قد تكبتهَا مرارًا ولكنّها تثور في عنْف , معلنةً إحتلالهَا أحد جوانب عقلِك وتفكيرَك ربمَا أبرزهَا .
    قالت :
  • ما الذي تفكّر فيهِ الآن ؟
    أربكنِي سؤالهَا , وشعرَت بأنّها تراقبنِي بتركيز اليوم , بدَا الإرتبَاك عليّ وهي تنتظرُ منّي إجابةً مباشرَة بينمَا أنَا صامتٌ كحجَر , قالت بضيق :
  • أسؤَالِي صعبٌ لهذهِ الدرجَة ؟
    إبتسمت لضيقهَا وقلتُ قبْل أن يزدَاد الضيقُ على وجهِهَا :
  • أتهمّك الإجابَة إلى هذا الحد ؟
  • إممممم , أرغب في معرفة خواطرك مع البحْر ..
    هو ذا التراجعْ , إختفَى الضيقِ عن وجهِهَا وحلّ محلّه تعبير بلا مبالاة أعرف أنّها مصطنعَة , لمْ أحب مضايقتهَا أكثَر , قلت :
  • وهل يُسألُ أحدٌ عن خواطرهِ مع البحر , يمكنك التفكير في كل شيءٍ هنَا , معظم الكتاب يكتبون هنا , معظم الرومانسيون يحلمون هنَا , العامِل الذي لا يعرفُ القراءَة يأتي مع زوجتهِ ليسيرَا هنَا ليلاً
    أشعلتُ سيجارةً من علبتِي وعدّلتُ من جلستِي حتّى أواجههَا هيَ , تطلعّت إلي صامتةً تنتظرُ أن أتابعَ حديثِي , بدَت فاتنَة بخصلة شعرهَا السودَاء اللامعَة والتي تخفي نصفَ عينهَا اليُمنَى , تمنيتُ أن أزيحهَا بيدِي لأرى وجههَا كاملاً , دفنتُ رغبتِي في دخّانٍ نفثتهُ ليبخرّه الهواء في لحظَات :
  • إننّا لا نرَى حدود البحر ولا نجرؤ على الخوض فيهِ , لا نرَى داخلهُ ولا نعرف ما يحتويهِ من أسرار , ربّما هو لهذا يعبّر عن المجهول , ربّما أيضًا يعبر عن العدم , هذهِ المرحلة التي نشعر فيها بعدم التوازن و فقدان القدرَة على التقدّم أكثَر ..
  • أنتَ تجيب عن أسئلتي متأخرًا , سألتك ماذا يعني لكَ البحْر و أنتَ تجيب الآن ..
    إرتسمت إبتسامة على وجهي رغمًا عني وقلت :
  • هذهِ هيَ إستطاعتِي , إقبليهَا كمَا هيَ , أنتِ لا تسألينني عن تاريخ ميلادي الآن !
    إندمجَت حمرة وجههَا مع شحوب السمّاء الذي بلغ أشدّه والشمس تهبط بالفِعْل , ورغمَ هذَا بدَا إشراقهَا أكثَر , إجاباتِي تضايقنِي بأكثر مما تتضايقهَا ولكننّي لا أستطيع التحدّث صراحة , هناك حاجز ما زال موجودًا , شيء يمنعني عن ذلك , أحبّها حبّ الحياة ذاتهَا , ولكنّهَا لا تشعر بشيء تجاهِي , أحيانًا أشعر بالعكس , وأحيانًا اشعرُ أنّهَا تتعمّد سحقَ مشاعرَي ..
    هيَ لا تستطيع أبدًا تقدير ما بداخلِي من ألم , ما ينتَابنِي من شوقٍ بعيدًا عنهَا , لهذَا فمنْ الوارِد جدًا أن يكون موعدنَا التالي بعد شهور من الآن .
    أقاوم بعنفٍ أفكارَ أحلامي معهَا وأنا أدير رأسي في حدود البحر الممتدّ , منتظرًا أن يشرُد عقلِي مرةً أخرَى ولكنّها إحتلّت جميع خلاياه , ألتفت إليهَا بغتة وأقول :
  • أتمنى أن أحتضنك !
    تنظر لي وآثار صدمة تتبدى على وجههَا , قبل أن تريح رأسها على صدري في بساطة شديدة
  • تمت –
  • Related Posts

    عيون التنين لستيفن كينج من ترجمة شيرين النهائي عن عصير الكتب

    نشرت عصير الكتب للنشر على فيس بوك : عصير الكتب تقدم لكم 🎉 كان ياما كان، كان هناك رعـبٌ..وتنانين وأمراء، وسحرة أشــرار، وزنازين مظلمة، وقلعة مســحورة، وأسرار رهيبة.مات الملك. قتـله…

    جوناثان سترينج والسيد نورل من ترجمة نوره العنزي من عصير الكتب

    نشرت صفحة عصير الكتب على فيس بوك : عصير الكتب تقدم لكم 🎉 في مطلع القرن التاسع عشر، برز ساحران مختلفان كل الاختلاف، فغيَّـرا تاريخ إنجلترا. في سنة 1806، والحـروب…