
خط مائل
تأخرت ولادة أبراهيم خمس سنوات، وهو أمر غير معهود في المنطقة، فالنساء يحبلن من الليلة الأولى خصوصاً من تتزوج في سن مبكرة، لم يبقيا زنوبة وأبو الخير نذراً إلا ونذراه من أجل المولود حتى نسيا بعض هذه النذور عند ولادته لكثرتها ولمرور سنوات عليها وانشغالهم بفرحة قدومه.
كان محمد ابو الخير فلاحاً، يبكر لأرضه في كل يوم ثم يعود الى البيت عصراً، وزنوبة تنتظره بكل صبر، وفي المساء يذهب الى تكية(مراح الارواح)، فهو زبون دائم في حلقة الذكر.
في الطرف الشمالي تمتد مراح الارواح على ارض مساحتها خمسين دونماً، يتوسطها بيت الشيخ مراد، والذي يتكون من بيت بعدة غرف والى جانبه التكية التي تتكون من طابقين، الاسفل يشكل بناء بفضاء كبير والثاني متكون من عدة غرف لمبيت الذين يخدمون في التكية والارض والمريدين الذين يأتون من اماكن بعيدة والضيوف.
كان أبراهيم يرافق أباه بنفس الطريق عندما اصبح تلميذاً في مدرسة المنطقة، ثم يعود لوحده ظهراً او برفقة بعض اصحابه، وكانت زنوبة تنتظره بقلق رغم انه منضبط بتوقيتاته، فهو وحيدها الذي جاء بعد خمس سنوات من الانتظار.
لم يسمع أمه تتملل من حياتها التي اكتشف لاحقاً انها لا تستحق التململ وحسب، بل تستحق الثورة، وكان يرى حياة اعتيادية على الرغم من أن ابا الخير لم يكن يعتني بملبسه ولا رائحته، وكانت حياته مقسمة بين الارض ومراح الارواح، والتي لم يرغب ابراهيم الذهاب إليها خصوصا مع رغبة زنوبة الملحة لبقاءه معها.
في صبيحة الخميس وعندما كان ابراهيم في الخامسة عشر من عمره وعلى مائدة الافطار، فز ابو الخير وكأن حية لدغته وهو يصيح، واويلاه يا زنوبه.. واويلاه يا زنوبة.. كيف نسينا نذر المراح، وبعد أن سادت الدهشة المكان، صاحت زنوبة يا رب سترك.. أغفر لي.. لم أنس متعمدة.. المراح قلبها كبير، ووسط هذا المشهد الدرامي، سأل ابراهيم ما الخطب؟ فأخبره الاب بأن احد النذور التي كان سبباً في مولده، أن يخدم في مراح الارواح ثلاثة أيام وليالي، ويبات خلال تلك الفترة فيها، فبان بعض التوجس على وجهه، وسأل الاب، ألا يمكن أن تقوم بالنذر بدلاً عني؟ فأجاب الاب، لا لا هذا نذرك، وهذه بركتك، وسوف تغير هذه الايام حياتك كلياً.
أتفق الأب معه أن يكون ذلك في اول عطلة نصف السنة، وهكذا صار نذر المراح حديثاً يومياً.
في أول يوم للعطلة لم يذهب ابو الخير الى الارض، بل توجه بأبراهيم الى المراح حيث الشيخ مراد، وبعد ان قدم التحية المغمسة بالكثير من تقبيل الايادي للشيخ مراد، سأله السماح والغفران، وقص عليه قضية النذر، واعتذر عن النسيان، وطلب من ابراهيم ان يسلم ويقبل يد الشيخ، فكانت اجابة الشيخ، لا عليك انت ابننا البار، وستكون مباركاً بوجودك في المراح، أذهب الى الشيخ عادل ليرشدك لما تقوم به، وهكذا كرر ابو الخير الاعتذار والتقبيل، واصطحب ابراهيم الى الشيخ عادل الذي كان يقسم الاعمال على الشباب خارج المنزل، وبعد ان اخبره بقصة النذر، طلب منه ان يعتني بابراهيم، فاجابه لا عليك، وهكذا قضى ابراهيم ايامه الثلاثة، نهارها ما بين خدمة الارض وتنظيف البيت ومحيطه والمساهمة في خدمة الضيوف وليله يخلد متعباً الى النوم محشوراً بين عشرات الشباب الذي تمتلأ بهم الغرف، حيث يتشارك كل أثنين أو ثلاثة فراش النوم والغطاء.
نام ليلتين دون ان يشعر بالليل لكثرة التعب، ولم يلتفت لأي شيء غريب يحدث في المكان، ولكن الليلة الثالثة كان لها حدثها المختلف.
خلد الى النوم وبجانبه شاب ممتلأ ببشرة ناعمة رغم انخراطه في الخدمة، وقد حاول الحديث معه، وكان ابراهيم يجيب وهو يفتح نصف عين ويغلق الاخرى من التعب، وهكذا كانت اجوبته قصيرة، وخلد بعدها الى النوم ، إلا انه احس بشيء غريب في آخر الليل، حيث تسللت يد الشاب الذي ينام ملتصقاً به الى داخل سرواله ليلمس بطريقة مثيرة عضوه، والذي لم يلمس من قبل ولو بالخطأ، وبعد ثوان من حركة غريبة أحس بشعور ممزوج ما بين اللذة والخوف، ومع استمرار الحركة تغلبت اللذة على خوفه وصار يصدر صوت بسيط، فأحس ان الشاب يغمزه من فخذه اشارة له بخفض الصوت، وفي الاثناء قام احدهم وخرج الى بيت الخلاء بطريقة وكأنه فز مرعوباً، فسحب الشاب يده من سرواله، ورجع الصمت الى المكان، وبعد دقائق عاد الشاب الذي خرج وخلد الى النوم، وحالما سكنت الاصوات، وبدون شعور، مد ابراهيم يده الى يد الشاب واعادها الى مكانه تحت سرواله، وهكذا استمرت العملية الى وجد نفسه غارقاً، فكان شعوراً لم يكتشفه من قبل، ولم يخطر على باله.
بعد دقائق من شعور غير قابل للتوصيف قام ابراهيم وتوجه راكضاً الى البيت، ودخل الى الحمام وغسل جسده، وابدل ملابسه، وألقى بنفسه في فراشه، ونام بعمق دون ان يعلم والداه بقدومه، وفي اول الصباح، تعجب الاب من قدومه مبكراً، فاجابه بأن النذر تم وفائه، وهو غير معتاد على النوم خارج المنزل، ومشتاق لوالدته، وقرر أن يأتي مبكراً.
لم يذهب الى المراح بعد ذلك مطلقاً، ولم يحاول أن يفسر او يناقش اي شيء يتعلق بما حدث في ليلته الثالثة، ولم يتحدث بذلك السر طيلة حياته.
لم تكن لابراهيم أي خبرة بهذه الموضوعات، فهو لحد هذه اللحظة لم يلفت انتباهه أمر في البيت إلا مشهدين، الاول، عندما شاهد والدته في احد الليالي وبغياب والده تلبس فستان نوم قصير وتقف امام المرآة وتهز بأكتافها وتتفحص اجزاء جسدها باعجاب ثم تنزع الثوب عن جسدها بطريقة غريبة وتلقيه على الفراش، وتجلس متكورة وقد امسكت بصدغي رأسها، ولم يجرأ أن يسألها عن المشهد طوال حياته، والثاني، عندما كان يسترق السمع لحديث والدته والجارة ام حسن، وهن يتبادلن طرائف عن مواقف جنسية ويتعالى ضحكهن بطريقة هستيرية، وحالما شاهدا ظهوره في المشهد، تغمازا اشارة لتبديل الكلام.
كان ابراهيم مجتهداً في المدرسة، وربما يصنف الاول على الصف لذلك كان معدله ممتازاً في الاعدادية، ولرغبة تعيش معه تتعلق بالتخاطيط والرسوم فقد اختار الهندسة المعمارية، وهكذا سافر الى المدينة حيث استقر في الاقسام الداخلية للجامعة.
انهمك كثيراً في دراسته في النصف الاول من السنة الدراسية، وكانت درجاته ممتازة، ولم يعود الى المنزل حتى عطلة الفصل الاول، وبعد ان قضى ايام يحدث والديه عن الجامعة وعن دراسته، عاد من جديد الى جامعته، وفي احد المحاضرات المتعلقة بالرسم الهندسي ودون شعور خطر في ذهنه أن يقوم بتقسيم الاشكال المرسومة من دوائر ومثلثات ومربعات ومستطيلات بخط مائل، يقسم كل منها الى نصفين متساويين، لكنه احس بشعور غريب، فوجد انه يرى النصفين احدهما اكبر من الآخر مع تغيير زاوية النظر، فعندما ينظر الى الرسم من جهة الجانب العلوي للخط المائل يشعر ان هذا النصف هو الاكبر وعندما يغيير زاوية النظر كان الامر يبدو مختلفا.
تحدث بما شاهد لبض زملائه، فكانت الاجابة بين السخرية والنصيحة بترك الامر وتقليل ساعات الدراسة، وهكذا شابهتها اجابة بعض الاساتذة إلا أن ابراهيم اصابه مثل الهوس في الموضوع، فأصبح يرسم خطاً مائلاً على كل السطوح التي تقع بين يديه، بل اصبح يمسك ببعض الاوراق التي قسمها بخط مائل ويقوم بتحريك نظره في هذا الاتجاه وذاك الاتجاه، وهو يؤكد ما يراه من اختلاف الحجم بتغيير زاوية النظر، وصار يتابع كل الخطوط المائلة على الابنية والشوارع ويتأملها بنفس الطريقة، وصار يصوغ اسئلة تتعلق بأثر الخطوط المائلة على زاوية النظر، وانسحاب ميلانها الى الرؤية المتصلة بها والمنظورة من خلالها.
كان حضور الطلاب في نادي كلية الهندسة محدوداً، فالمعظم مشغول بمحاضراته، وكان الوضع فيه يسوده البرود على الخلاف التام من نادي كلية الآداب وخصوصاً ركن جماعة علم الاجتماع، والذي يقع في الجانب الثاني من البناية الفاصلة بين الكليتين، وكانت الموسيقى تسمع من بعيد فيه، والزحام كبيراً، والحضور ملوناً، وكان البعض يقضي معظم اوقات الدوام في النادي، ويتأخر البعض حتى بعد نهاية الدوام.
كان عاصم الذي ينحدر من نفس قريته يسكن في الاقسام الداخلية معه، وهو طالب في كلية الآداب قسم الاجتماع، وقد اتفق معه أن يصطحبه الى نادي الكلية، وفي الحادية عشر من صباح اليوم التالي، مر عاصم على ابراهيم واخذه الى النادي الذي كان مكتظاً بالطلبة، والموسيقى والاصوات تسمع من كل مكان، وهكذا شقا طريقهما الى ركن جماعة الاجتماع، حيث التجمع له طابع خاص، فقد تم توسيع محل الجلوس ليشترك عدد كبير ضمن مناضد متصلة تم رصفها الى بعضها، وبعد ان سلم ابراهيم بخجل على الجميع، صاح عاصم اقدم لكم احد عباقرة الهندسة المعمارية الذي قرر ان يلتحق بمجلسكم الموقر هذا وهو يضحك بصوت مرتفع، ثم عقب.. مسكين سوف تتحسر على درجة النجاح، وبعد ان قدم الزملاء الى ابراهيم، وصل الى رأس الشدة، فهي تفضل الجلوس في مقعد القائد ، وقال منحنياً قليلاً، أقدم لك مريم جيفارا ( رئيسة الشدة).
كانت مريم تعتمر قبعة حمراء مائلة وسنحتها حنطية اللون وشعر قصير وقد حرصت على تكون صورة للثائر تشي جيفارا على ملابسها وعلى محفظة اوراقها.
حصل ابراهيم على مقعد بجانب مريم جيفارا، والتي لم ترحم تلعثمه وخجله، والتفتت إليه حالما جلس وهي توجه له سيل من الاسئلة.
م : كم ساعة تدرس باليوم؟
أ : تقريباً ما بين أربع الى ست ساعات.
م : أنت عاقل؟
أ : أظن ذلك.
م : تعرف جيفارا؟
أ : لا
م: تعرف ماركس، ليلين، روسو، سارتر، تيتو، غاندي؟
أ : بعض الاسماء اعرف معلومات بسيطة عنها، تعرفي نحن العلمي ليس لدينا شغف بمتابعة هذه الامور.
م : وهي تضحك بصوت مرتفع، تعرف خالتي؟
أ : وكيف لي أن أعرفها.
م: تدخن، تشرب، تسهر؟
أ: أكيد لا.
يتدخل عاصم ، رجاء آنسة جيفارا رحمة بالشاب، هذا أول يوم له.
خرج خجله وارتباكه بشكل غربب دون ان يشعر، وألتفت الى مريم، وهو يخرج ورقة فيها عدد من الدوائر والمربعات والمستطيلات والمثلثات متساوية الاضلاع، وقد قسمها بشكل دقيق بخط مائل، ويسألها: هل من الممكن ان تنظري في هذه الرسومات مع تغيير زاوية النظر، هل يختلف المشهد من حيث حجوم المناطق المقسمة او يتخلف؟
لبرهة أحست مريم ان ابراهيم قد وضع دبوساً صغيراً في كيانه المشحون بالهواء، وبدأت تفقد انتفاخها تدريجياً، ومسكت الورقة بذات الدهشة، وصارت تقلب نظرها، ومرة تقول متساوية وتعود تقول مختلفة.
في اقل من خمسة دقائق صارت الورقة تدور بين ايادي الجميع والاجابات مختلفة، وبدل ان يكون المجلس مدهشاً لأبراهيم، وضعهم في دهشة كبيرة تضاربت فيها الآراء والتعقيبات.
صار ابراهيم يحضر في كل يوم الى ركن جماعة الاجتماع، وكان حديثه مع مريم الاطول والاكثر خصوصية، وبالمقابل تراجع مستواه الدراسي، وصارت درجة النجاح تأت بالكاد.
حدثته كثيراً مريم عن جيفارا الذي تعشقه، وصار يعرف كل تفاصيل حياته، وبدل ان يعتمر بيده المراجع الهندسية، كانت الروايات وكتب الاجتماع والدواوين واحيانا الكتب الدينية هي الاكثر حضوراً بين يديه.
مريم جيفارا من اهل المدينة، دعته الى بيتها ذات يوم، وعرفته على والدها الرسام والنحات وامها معلمة الرياضة التي تحتفظ بقوام ممشوق.
بعد ان رحب به والدها دمث الاخلاق ووالدتها الانيقة، قال له، أذن انت من اهل القرية، أنا احب واحترم اهل القرى كثيراً، في غالبهم طيبون وصادقون وبعيدون عن انحرافات المدينة، ولديهم مواقف واضحة.
احمر ابراهيم خجلاً من كلمات الاطراء، واجابه، يا عم، هذا كثير بحقي، هذا لطف منك، لم تبق القرية على واقعها، تسلل لها الكثير مما لوث عذريتها، نعم لا يزال البلوط يحتفظ باستقامته وصلابته.
والد م : تواضع منك، تعابيرك تدلل على تهذيبك، حدثتني عنك مريم، وانا مستغرب كيف رست سفينة مهندس معماري متفان في دراسته على شاطيء هذه الشلة!
أ : اقدار يا عم، هل تؤمن بالاقدار؟
والد مريم: يتجاوز السؤال، ويتوجه لابراهيم.. حدثني عن اسرتك، ماذا يعمل والدك ووالدتك واخوتك؟
أ: أنا وحيدهما يا عم لا يوجد غيري، وأمي في البيت، ووالدي فلاح في النهار ومريد في الليل.
والد م: مريد في الليل، هل هذا عمل في القرية، لم أسمع بهذا من قبل؟
أ: ليس عملاً، يتواجد في التكية مراح الارواح يومياً، وانا امزح معه دائماً، فأقول يعمل مريد ليلاً.
والد م: أها فهمت، يعني درويش، او متعلق بالدراويش، ويستطرد، أرجو ألا تكون مستك مريم بجنون تعلقها بجيفارا واصحابه؟
أ : من عادتي، أتعلق بالافعال والمواقف، وهو ما يسمح لي أن اقيمها بعيداً عن التأثر بميولي تجاه اصحابها، صحيح أن مستواي الدراسي انخفض بسبب ادماني للحضور مع الشلة ولكن عقلي معلق بالرياضيات والهندسة وتطبيق القوانين، ثم غير مسار الحديث، وسأل.. يا عم هل لديك متسع من الوقت اناقش معك بعض ما يدور في خلدي، والذي اتجنب مناقشته مع الشلة؟
والد م : تفضل.. تفضل، بكل امتنان يسعدني ذلك، وقبله، دعنا نشرب من قهوة ام مريم، فهي خرافية، ليطيب الحديث، ها بالمناسبة، هل تشرب او تدخن؟
أ: لا اشرب ولا ادخن، ولكن يمكنك ان تفعل ما تحب.
والد م: شكراً لك، احتاج السيجارة في مثل هذه الاحاديث الوعرة.
أ: هل الايمان ضرورياً للانسان، بمعنى، هل ان على الانسان لزاماً ان يؤمن بفكرة مثالية أم ان هذا الموضوع اختياري؟
والد م: تعرف يا ولدي اني رسام ونحات ومعلوماتي في المسائل الدينية والفلسفية محدودة، ومع ذلك، بحسب فهمي للايمان وهو التعلق القلبي والاتصال الروحي، فهو حاجة حقيقية ضرورية، إذ ان الوجه الآخر لعدم الايمان هو التيه، والتيه هو الدوران حول الذات دون انجاز زخم يوصل الدائر باتجاه هدف ما، ومعه ستتبدد طاقة الانسان في التطواف غير الهادف وسوف يسقط صريعا عاجلاً أم آجلاً، وأضيف لك شيء آخر، أن خلو الانسان من احساس عميق بمصدر أمان يثق بأنه موجود الى جانبه يحيل الحياة الى حلبة صراع مميتة مع وساوس القلق.
أ: هناك اشخاص يصنفون انفسهم بأنهم بلا دين، هل يعني ذلك انهم بلا ايمان؟
والد م: لا تصعب الامور علي، اعتقد ان هناك فارق كبير بين اللادينيين وغير المؤمنين، وتعبير اللادنيين يعني انهم لا يلتزمون بانتماء الى منهج ديني محدد، ولا يقيمون طقوس اي ديانة، لكن لا اعتقد انهم مقطوعون من التعلق بمثال عبر احساس ايماني معين، لا تنسى ان هناك الفطرة والادلة الذاتية التي تأت مع الانسان في اعماقه، كما ان الكثير من هؤلاء كان لهم صلة دينية، ثم اختاروا هذا التوصيف، وربما اصبح الموضوع في بعض الاماكن والدول مثل الموديل، ولا يتوافر على القصد الحقيقي له.
أ: هل تعتقد ان من الضروري ان يكون للانسان شيخاً حتى يبلغ درجات الايمان العالية؟
والد م: في الحقيقة، أن الاستاذ والمعلم مطلوب في الكثير من الامور وخصوصاً الخطيرة والمهمة منها، ولكن بحسب تجربتي، وانا مهتم بتفحص صور الجمال في الوجود والتدقيق في الترابط بين اجزائها، فإن هناك صوت وضوء منتشر ومبثوث في كل الوجود، ومنعكس على كل صور الجمال، والامر لا يحتاج اكثر من ان تعرض نفسك له، وستجده يحيط بك.
أ: اذن انت تقول لا بد ان نهدم مراح الارواح؟
والد م: لا لا، لم اقل ذلك، ولا اعرف حقيقة ما يدور هناك، لكن ما اعرف ان الرب موجود في كل الاماكن، وربما بعض الاماكن التي تدعي انها مواطن الرب هي الابعد عنه من غيرها.. هل تعرف يا ابراهيم لطالما رأيت وجه الرب في الماء وعلى ورق الاشجار ومختلط مع اصوات الطيور ورائحة الورد.. طبعا انا لا ارتاد اماكن عبادة مع اني احترمها جميعاً.. صحيح بالمناسبة.. يوجد في المدينة كنيسة صغيرة جميلة وهم اصدقاء، ساعدتهم في ترتيب بعض اللوحات، هل ترغب في زيارتها؟
أ: نعم نعم من سعادتي.
تدخل ام مريم على خط الحديث: أراكم نسيتم مريم وأمها.. ليس لي حصة من حديثكم الجميل هذا؟
أ: لا يا خالة انت البركة.. لدي سؤال.. هل كان اصل الرياضة هو الترويض؟
ام م: ابراهيم انا لاعبة تنس جيدة، ولست فيلسوفة مثلك ومريم… اعتقد ان الاسم له صلة بالترويض..
أ: اذن نحن هنا نتحدث عن ضبط ايقاع، وتحديد نشاط جامح، وجعله مقبولاً او مناسباً.. فهل ينطبق هذا على قضايا الالعاب والتمارين وكل ما يندرج اليوم تحت عنوان رياضة؟
ام م:الحقيقة، لم أتأمل كثيراً في الامر، لكن الترويض وضبط الايقاع يناسب بشكل اكبر مع الروح والنفس ونزعاتها، واظن انهم يستعملون اصطلاح الرياضات الروحية، وهل تتوجه الى هذا الضبط.. هل تمارس رياضة بدنية؟
أ: كنا في القرية نركض كثيراً، وطبيعة الحياة تجعلنا منخرطين قهراً في ممارسة الرياضة.. لكن وجودي في المدينة حرمني من كل ذلك..
بعد اسبوع تواعدوا ان يذهبوا جميعاً الى الكنيسة ليسمعوا موعظة فيها يوم الاحد..
كان وجودهم مميزاً بين الحضور، وقد استقبلهم القس وفريق الكنيسة، فهم اصدقاء لابي مريم، وجلسوا في خط واحد، واندفع القس يلقي موعظته عن القدر.
تلى آيات تدلل ان الانسان غير قادر على التفلت من قدره، وانه محفوف بخط هذه الاقدار التي ترسم له الكثير من حياته..
بالغ القس في قدريته ولم يلامس الجانب المتعلق بمساحة الحرية لدى الانسان، والتي مدار المسؤولية والتكليف، وتحدث عن الموت والرزق والمصير…
انتهى القداس، وخرج الجميع إلا ابراهيم وعائلة مريم، وبقي الجميع يتجولون في الكنيسة، وفي هذه الاثناء، رآى احدى الراهبات تشير إليه بطريقة لم ترغب ان يحس بها احد، ومع انشغال الجميع بالحديث وحركتهم داخل اروقة الكنيسة وفائها، حاول ان يسرق نفسه ويقترب منها.
كانت ترتجف خائفة، والاحمرار واضح على بشرتها، وسالت ابراهيم، هل يعرف مهنا البناء، فاجابها بانه ليس من المدينة، ولكن ما هو المطلوب؟
مدت يدها في جيبها وهو ترتجف، واخرجت رسالة، قالت اسال جماعتك عنه فهو معروف، واوصل الرسالة له، وقل له، سارة تسلم عليك وتقول لك، هذه الرسالة منذ خمسة عشر سنة احتفظ بها سراً لطالما خفت من انكشافه…
استلم الرسالة، ودسها في جيبه، وعاد الى المجموعة، وبعد الخروج، سأل مريم: هل تعرفي مهنا البناء؟
فتعجب الاب من سؤاله، وقال وكيف عرفت هذا الرجل؟
فقال ابراهيم:مجرد حديث عابر سمعت عن براعته في البناء، وانت تعرف اني مهتم بالعمارة..
قال الاب: رحم الله مهنا، كان رساماً اكثر مما هو بناء، فقد سقط من جدار وهو يشيد احد البنايات في المدينة الاخرى منذ عشرة سنوات تقريباً.. كان جميلاً ومميزاً..
فسأله ابراهيم: هل تعرف قبره في اي مكان؟
ازداد عجب الاب، وارشده الى مكان القبر..
اصطحب مريم ووقفا على القرب، وبعد قراءة الفاتحة عليه، حفر بيده، ووضع الرسالة، وقال له.. يقولون أن تأت متأخراً احسن مما لا تأت.. سارة تسلم عليك وتقول كتبتها لك منذ خمسة عشرة سنة…
تخرج ابراهيم مهندساً، وعمل في بلدية المدينة، واكملت مريم دراستها في علم الاجتماع، ومات ابوه بعد تخرج بسنتين واوصى ان يدفن في المراح… واقنع امه ان تتحول معه الى المدينة..
في احدى مغامرات مريم، ألحت على اهلها ان تتزوج من مضر الذي كان يشاركها افكارها الثورية، وكان بينهما شيء من حب، ولكن الحياة لم تتسق ودبت المشاكل بينهما ووجد كل منهما نفسه مختلفاً عن الاخر.. وهكذا انتهت الرحلة بطلاق مريم…
كانت تزور بيت ابراهيم وتقضي الساعات مع زنوبة التي كانت حنونة وطيبة المعاملة لها…
في احد الامسيات تحدثت زنوبة عن رغبتها بخصوص زواج ابراهيم من مريم…
تعجب ابراهيم من موقفها.. وسألها.. هل ان هذا الموقف تعاطفاً معها ام قناعة منك؟ وكيف صرت تقبلين ان اتزوج أمرأة مطلقة.. ومهوسة بجيفارا؟
اجابت الام: انها تتلمس في مريم طهارة عميقة.. وهي أمرأة.. والمرأة تعرف المرأة جيداً.. وهي الخيار الانسب…
دار جدل طويل بين ابراهيم ومريم حول موضوع الزواج، وانتهى بموافقتها، وبعد ان تزوجت تغير كل منهما تغيراً عميقاَ في الكثير من قناعاتهم…
اخبرت مريم ابراهيم، انها تصدقه في ان الخطوط المائلة تنعكس على الحقائق وتتلاعب في حجومها، واخبرته ان والدها صدق هذه الفكرة في وقتها واخبرها، انه اكتشف ذلك لاول مرة… وولدت مريم تؤاماً، اسمت البنت زينباً والولد جيفارا…